عذراً لمَنْ لا تؤنسه وتشجيه نغمة "الشَّعب العراقي"، بقدر ما تطربه نغمات: الكُرد والشيعة والسُنَّة، وضاعت بين هذا الثلاثي أسماء قائمتها تطول. ولا يخفى أن دافع الجاعلين العراق مركباً غير متجانسٍ، هي المصالح الفئوية، فمَنْ يريد لهذا الثلاثي المنافع يجدها جميعاً عبر كائن اسمه العراق. صحيح أنه ليست هناك أصالة لمفردة "الشَّعب" في حضارتنا. ولعلي لستُ مخطئاً بتصوري أنه لا النثر القديم ولا الشعر الأقدم، تضمنا تلك المفردة غير المرغوبة لدى مَنْ يريد التفرد بقيادة شيعة وسُنَّة وكُرد، شريطة أن تكون له لا لسواه من أبناء تلك الطوائف... رغم أنها وردت في القرآن: "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا"، بمعنى "أعلى طبقات النسب" (تفسير الجلالين)، فوق القبيلة وما تحتها. وخشيت أن يكذبني بهذا التعميم، قتيل ودفين بلدة النَّعمانية الغافية على حدوة دجلة، وهو يمدح عضد الدولة (ت 372هـ): "مَغاني الشِّعب طِيباً في المَغاني .. بمنزلةِ الربيع مِنْ الزمانِ"(العُرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب)، لكن وجدتها الشِّعب، المُنفرج بين جبلين، لا الشَّعب النَّاس. نعم، استخدمت اشتقاقها الشعوبية لكن في السوء لا الصلاح، عند الإشارة إلى المثالب بين الأمم، وعفا الله الشَّعب العراقي، فلم يبق منها، منذ عصرها العباسي، سوى اللطائف والفكاهات، المخففة مما وغره التعصب في الصدور. عموماً، الشَّعب مفردة جديدة في معجمنا السياسي، لكنها ليست بالعراق فحسب وإنما جديدة في كلَّ الأمم والبلدان، أخذ الملوك والرؤساء، المحافظون والتقدميون، يخاطبون رعيتهم بمفردة الشَّعب وباسمه. لهذا نقول: الشَّعب العراقي ليس منفرجا بين جبلين، ولا نُحت من أنشعب: أي تفرق وتباعد (القاموس المحيط)، من دون شعوب المعمورة، إنما الشَّعب بمعنى النسب الأعلى، وهو ليس النَّادر، أن يتألف من قوميات وقبائل وأديان ومذاهب، فلماذا فأس المحاصصة تضرب به إلى حد ضيق بعضهم إذا ما سمع بعبارة: الشعب العراقي، من دون المسميات الأُخر: كُرد، شيعة، سنَّة! أكثير على هذه البلاد، وفيها "جنَّات وَحَب الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ"، أن ينشأ فيها شعب يأخذ اسمه من اسمها، ويتجذر فيها! إنها حقيقة قائمة؛ هناك شعب عراقي وله مظلومية واحدة، لا مظلومية شيعة، ولا استبعاد سُنَّة، ولا استحواذ على كُرد! هل لمصلحة الأجيال أن يأخذ السياسيون الذين ظننا أنهم المنقذون، يصيرون هذه البلاد إلى ساحات نزاع واحتراب تحت اسم الحقوق، حتى غدا اسم العراق وهماً من الأوهام، لا عِراق يقطنه عراقيون، واحد متنوع! وعلى حد بيت الجواهري (ت 1997)، وهو يخاطب جيلاً سابقاً: "ومِنْ عجبٍ أن الذين تكفلوا.. بإنقاذ أهليه هم العقباتُ" (الرجعيون 1929)، وحقيقة لا مجاز، أنتم العقبات. لقد أظهرت نتائج الانتخابات (مارس 2010) أن العراقيين شعب واحد، لا حدود بين سنتهم وشيعتهم وكُردهم، فلو تركت الأحزاب الكُردية تخندقها القومي، وخالطت غيرها، وخففت من هيمنتها باسم المظلومية الكُردية، مثلما هي الأحزاب الدينية، سنتها وشيعتها، لانتُخبت قوائم عراقية مختلطة، وهي بزعاماتهم أيضاً. تلك الانتخابات التي اُتهمت التكنولوجيا بتزوير نتائجها، وهي دلالة سلفية في مقاربتها. ويُحكى عن مؤذن أنه رفض الأذان عبر المايكرفون، حتى نفخ فيه إمامه! لكن ذلك المؤذن كان صادقاً، ليس موارباً، فمصلحته بالمايكرفون، لكن فهمه للدين أوقفه عند هذا الحد. أما بالنسبة للمعترضين على التكنولوجيا، لأنها لم تأت لهم بالمتوقع من الأصوات، فسلفيتهم لمصلحة لا سلفية دين، فلو أتت لهم بالفوز الباهر لسفهوا الاعتراض عليها، ولوصفوا المعترضين بالعقول العقيمة! ولو خالف العد اليدوي توقعهم لطلبوا العدَّ التكنولوجي! لم يدخر الشعب العراقي جهداً في دعم الساسة، إن كان العديد منهم ساسة حقاً، توجه إلى صناديق الانتخابات، وشبابه وشيوخه يتوقعون الموت برصاصة قناص، أو بحزام ناسف. وبعد اختبار للمحاصصة الكريهة، لسبع سنوات، تكشف لدى الكثيرين أنها ستدفنهم تحت ركامها بل وستدفن العراق نفسه، لذا تقدم الشعب لخيار آخر، وليس أمامه غير القائمة العراقية، مختلطة، من مختلف الأطياف، وفيها، مَنْ لا يلعب باسم الدين والمذهب، ومنحها 91 مقعداً، وأعضاؤها لم يأتوا من الواق واق بل عراقيون، وإذا وفقوا وشكلوا الحكومة فهي لأربعة أعوام لا أكثر، وسيضعون على المحك، مثلما وُضع الآخرون، فلماذا تُشرع الرماح بوجهها، مرة والدة رئيسها ليست عراقية! ومرة مفخخة بأجندات بعثية! وأخرى إن لـ"المساءلة والعدالة" (الاجتثاث) رأياً في عناصرها! وأن التكنولوجيا لعبت لعبتها وساهمت في نجاحها! وأخيراً وصفوها بأنها قائمة أهل السُنَّة والجماعة، وكذلك قالها، وسط بغداد، سفير دولة مجاورة، تريد للعراق أن يكون غيتوات، فالتلاعب بها حسب الأهواء أيسر وأجدى، من دون أن يخرج من الساسة (الحكماء)، وأهل السلطة (الأشاوس) مَنْ يقول له: لا، هذا شأن عراقي! أقول: إذا كان أهل السُنَّة، وأنا مرغم على هذا الوصف، قد اختاروا قائمة عراقية التكوين والمنحى، فهم أول مَنْ غرس المسمار في تابوت المحاصصة، وأول الغارسين والمراعين لشجرة العراق الواعدة! مع علمي أن منتخبيها مختلطون، وما جلبهم لها، وبهذا الكم الهائل، إلا كونها ليست دينية، ولا مذهبية، وبالتالي خالية من سوءة المحاصصة. بعد هذا الفوز الشعبي، لماذا التوجس والسلبية تجاه قائمة يمكن أن يُشكل معها من بقية الفائزين، فريق وزارة تكنوقراط، تتفرع بشبكة من وكلاء وزارات، ومدراء عامين، ورؤساء جامعات، ومسؤولي مؤسسات، من أهل الاختصاص كافة، وزارة لها حظها في تحقيق المصالحة، التي ظلت اسماً بلا مسمى طوال السنوات الأربع الماضية! أيها السادة، "لقد بلغ السَّيل الزُبى"، وحان أن تتعود أسماعكم على عبارة أغفلتموها لسنوات، هي: الشعب عراقي، أما بقية المسميات فليست إلا غيتوات مسورة لا تنفتح على بعضها بعضاً إلا عبر هذا الفضاء الرحب. نعم، شعب عراقي له قضية، لم يدخر جهداً ولا دماً في مسايرتكم وتسهيل سطوتكم، فجردتموه من بقية ثيابه، بعد أن تسلمتم أمره وهو نصف عارٍ، فحان له طلب الإنصاف، لقد كثرت أقوالكم وندرت أفعالكم، وما أفصح القائل: "وجدناكم أرضاً كثيراً بذورُها... رِواءً سواقيها، قليلاً رُيوعُها" (كل ما قاله ابن الرومي في الهجاء)! إنها قضية شعب عراقي لا قضية شيعة وكُرد وسُنَّة يا سادة!