توقفت الموسيقى في الإذاعات الصومالية الأربعة عشر، استجابة لأوامر قطعية صارمة من حركة "الشباب الإسلامي" المتطرفة التي تسيطر حالياً على مناطق عديدة من العاصمة مقديشو، وتتقدم بسرعة في باقي البلاد. تنضاف إلى الموسيقى قاعات السينما والمدارس المختلطة، كما ألزمت الحركة الرجال بإعفاء اللحى، وفرضت على النساء النقاب، تكريراً لتجربة حكومة "طالبان"، التي حكمت أفغانستان قبل الغزو الأميركي عام 2001. وكان أحد الفقهاء السعوديين من نجوم الفضائيات الإسلامية، قد ذهب مؤخراً إلى الإفتاء بإمكانية هدم البيت الحرام من أجل إعادة بنائه بطريقة تمنع اختلاط الرجال بالنساء، الذي ظل سائداً في البيت العتيق طيلة تاريخ الإسلام، ولم يفكر أي أحد في تغيير هذا الوضع القائم منذ العهد النبوي. وكانت الحكومة الثورية في إيران قد بادرت فور عودة الخميني من منفاه الفرنسي وإعلان الجمهورية إلى إيقاف التسجيلات الموسيقية في الإذاعة الإيرانية، لاغية تراثاً فنياً عريقاً عرفت به الثقافة الفارسية. ولقد تكررت الظاهرة نفسها مؤخراً في النجف، إثر هيمنة المؤسسة الدينية المحافظة على الحياة العامة في المدينة بعد سقوط النظام "البعثي" السابق. في كل هذه الحالات، تبرز ممارسات متشددة ومتطرفة باسم الإسلام تتجاوز في انغلاقها وتعصبها نمط الحياة الاجتماعية المحافظ، الذي كان قائماً قبل العصور الحديثة. يظهر الإسلام في هذه الأمثلة ديناً معاديا للحياة، رافضاً لمباهج العيش، لا يمكن الحفاظ عليه إلا بالعزلة والانقطاع والتقشف. فقبل سنوات قليلة، طالبت مجموعات "إسلامية" في مصر وبعض بلدان الخليج بتحريم تداول كتاب "ألف ليلة وليلة"، الذي هو أحد المصنفات التراثية في أدب الترفيه والمؤانسة بحجة أنه يدعو للإباحية، ويؤدي للفساد الأخلاقي. والكتاب المذكور كما هو معروف ظل واسع الانتشار، حر التداول، في كل المجتمعات المسلمة منذ ظهوره في العصر العباسي. وبالحجة ذاتها يقع تحريم الكثير من الأعمال الإبداعية والتحذير منها، باعتبارها تستخدم الرموز الجنسية والجسدية في الإيحاء والتمثيل، في الوقت الذي كان هذا التوظيف شائعاً ذائعاً في الأدبيات التراثية، خصوصاً في الكتابات الصوفية العريقة. بل إن فقيهاً ظاهرياً صارماً هو "ابن حزم " الأندلسي- صاحب المؤلفات الفقهية والأصولية النفيسة - لم يجد حرجاً في كتابة عمل محوري في فلسفة الحب وتجارب العشق وآداب الوصال، أعطاه عنوان "طوق الحمامة في الألفة والإيلاف"، اعتبر من أهم عيون التراث الإنساني. فالنظرة السلبية للجسد والمتعة غريبة على المرجعية الإسلامية التي اكتفت – على عكس التصورات المسيحية – بتنظيم الرغبات الجسدية بحسب ضوابط شرعية شديدة المرونة والتبسيط. وهكذا نظرت الأدبيات المسيحية الكلاسيكية إلى الإسلام بصفته دينا "إباحياً" نتيجة لضآلة مساحة التحريم فيه. وكذلك الشأن بالنسبة لمسألة الاختلاط التي حولت إلى حواجز مانعة لدمج المرأة في الحياة العامة، مع العلم أن الفقهاء في العصور الإسلامية الأولى ربطوا الاختلاط بالشبه (أي الخلوة المرتبة لأغراض جنسية مسبقة)، ولم يمنعوا مجرد الالتقاء والمجالسة بين الجنسين، التي هي من الحاجيات الأساسية لسير المجتمع وانتظام هياكله المؤسسية. ولقد ظلت أغلب المجتمعات المسلمة مختلطة بهذا المعنى، مما لا يحتاج لبيان. أما الموسيقى الداخلة في باب مبحث "السماع "الفقهي، فلا يمكن فصلها عن النظرة العامة للفن كحقل جمالي شكل أحد أساسيات التراث الإسلامي الوسيط. وهذا هو إمام أهل السُنة والجماعة "حجة الإسلام الغزالي"، يؤلف كتاباً بعنوان "بوارق الإلماع في تكفير من يحرم مطلق السماع"، ويؤكد بوضوح في باب "السماع "من كتاب "إحياء علوم الدين" أن السماع والرقص داخلان في باب اللغو المعفي عنه:"إذا كان ذكر اسم الله تعالى على الشيء على طريق القسم من غير عقد عليه ولا تصميم، والمخالفة فيه مع أنه لا فائدة فيه لا يؤاخذ عليه، فكيف يؤاخذ بالشعر والرقص؟". فالحضارة التي أنتجت الشعر المقفى الموزون بموسيقاه العروضية الجميلة والمتناسقة، وأبدعت في ترتيل كتاب الله العزيز وزخرفة بيوت العبادة والذكر، لا يمكن أن تحرم الغناء، وإنما قصدت الآثار المشددة – كما بين ابن حزم – المجون المحرم واختلاط السماع بمجالس التهتك والانحراف. يستند التقليد الفقهي المتشدد إلى آليتين أساسيتين في نهجه الانعزالي المنغلق الموغل في النزوع التحريمي هما: آلية "سد الذرائع" التي تقوم على تقييد المباح اتقاء للشبه واستباقاً للمحرم. ويؤدي التوسع في هذه الآلية إلى إلغاء مساحة الإباحة الواسعة في الشريعة، مع أنها هي الأصل والتقييد استثناء. آلية القياس الخارج عن ضوابط التشبيه والمقارنة، لاختلاف سياقي الأصل والراهن. وهو بهذا المعنى سياق باطل بالمعايير الأصولية القديمة نفسها. والواقع أن الخطاب الوعظي السائد في الفضائيات الإسلامية وبرامج الدعوة والتوجيه المنتشرة في القنوات الإعلامية يساهم – حتى ولو عن غير قصد - في نشر ثقافة الحزن والخوف والكراهية، بتحويلها إلى قيم تربوية في إعداد الإنسان المسلم وحمله على السلوك المستقيم. فكثيراً ما يغيب عن هذا الخطاب أدب الحب الإلهي ووعود الرحمة وجمالية التقرب والأنس بالله، التي تزخر بها الآيات الكريمة والأحاديث القدسية التي تتحدث عن صلة الرب الودود بعبده. ونلمس هذه المعاني الرائعة في التراث الصوفي الغني بإشارات العشق الإلهي، التي تعرض الوجه الجذاب العميق في التجربة الإيمانية الإسلامية. فإذا كان الوعيد في النص القرآني ربط بمبدأ العدل وإنصاف المظلوم منعاً للجور والبغي، فإن علاقة العبودية مبنية على الرحمة والبسط والمودة، ما من شأنه إنتاج ثقافة الفرحة والأمل والمحبة، لا ثقافة الموت والعزلة والانغلاق. كتب الصوفي الكبير "النفري" في كتابه الشهير "المواقف" بلسان الحق سبحانه: "اقعد في ثقب الإبرة ولا تبرح، وإذا دخل الخيط في الإبرة فلا تمسكه، وإذا خرج فلا تمده. وافرح فاني لا أحب إلا الفرحان".