وصل سعر كيلو اللحم في بعض الدول العربية إلى ما يعادل ثمانية عشر دولاراً للكيلو الواحد، وهو مرشح للارتفاع، ذلك لأن الحكومات تركت حركة وميكانيكية السوق تحدد الأسعار، والعرض والطلب هو الفيصل في سعر هذه السلعة الأساسية وسلع أخرى مشابهة. وبالطبع القادر من الأفراد في مجتمعاتنا قادر على أن يدفع هذا المبلغ أو أكثر مقابل هذه السلعة، لكن الشريحة الأكبر من الأفراد، الذين يمثلون الأغلبية الساحقة، كانت ولا تزال تواصل الأنين من هذه الأسعار التي تستقطع إن استمر الحال -وهذا محتمل- ثلثي مداخيل الطبقة الوسطى والبسطاء من الناس، وتترك الثلث الباقي للتغلب على مآزق الحياة وأزماتها الأخرى! إن نحن أزحنا الأمل في تدخل من رضي بقانون العرض والطلب الاقتصادي ووقع الاتفاقيات المنظمة والملزمة لذلك فإننا نتساءل: أين حماية المستهلك المنبثقة من مؤسسات المجتمع المدني؟ في مشهد بالغ الغرابة عرض مذيع في إحدى القنوات الفضائية العربية (فخذاً) من لحم العجل أمام المشاهدين قبل أيام، ثم حدد سعره طبقاً لسعر السوق ووزن هذه القطعة، فخرج بنتيجة غريبة: هذه القطعة تساوي أقل بقليل من كل الراتب الشهري لمحدودي الدخل في ذلك البلد العربي! هذا مثال ويمكن أن يُطبق في العديد من البلاد العربية بعد هذا العرض التلفزيوني الفضائي المدهش والمعلومات البائسة، التي تغمر القلوب بالحزن. توالت المكالمات من جهات رسمية تنفي -كالعادة- حدوث مثل هذه الزيادات، ومكالمات أخرى يصرخ أصحابها من الواقع المر مستنجدين مرةً بهذا ومرة بذاك دون أن تلمس في كلماتهم أملاً بصدى الرجاء والاستغاثة. ... أعود إلى سؤالي السابق: هل يمكن أن تقوم مؤسسات في المجتمع المدني العربي بدورٍ لحماية المستهلكين؟ أم أنها تنتظر مع الذين رفعوا صوت الشكوى اليائس؟ لو أن أسعار السلع ارتفعت اعتباطاً وبأمر من الجزارين واللحامين والخضريين وبائعي المواد الأساسية الأخرى، دون أن يكون هذا كجزء من غلاء عام، لو أن هذا حدث في دول تخاف رأي الجمهور والناخبين لقامت الدنيا ولم تقعد، ولبادرت اللجان والهيئات المدنية التي لها وزن انتخابي ووزن إعلامي، إلى الطلب من المستهلكين التوقف عن شراء هذه السلعة أو تلك لمدة معينة حتى تُجبر المحتكرين على تخفيض أسعارهم بعد معرفتهم بأن لحومهم ستنتن وينتهي موعد استهلاكها الآدمي؛ يحدث هذا دائماً في أوروبا وفي شرق آسيا المتقدم، وبالطبع في الولايات المتحدة الأميركية. لو يتذكر الإخوة القراء اسم (رالف نادر) الذي اشتهر في الولايات بأنه حامي حمى المستهلك في أميركا، كان مشهوراً ومحبوباً جدّاً إلى أن رشح نفسه لرئاسة بلاده في خطوة بلهاء أحرقت كل أوراقه، فالسياسي لابد أن يرضخ لضغوط أصحاب رؤوس الأموال والصناعيين والمزارعين الكبار، وبعد هذا فلابد من تمرير بعض القوانين المجحفة في حق المستهلك بعد تأشيرة موافقة من المشرعين، وإن كان هذا جائزاً لمن جاء من الوسط السياسي، فليس مقبولاً أن يكون هذا سلوك من كان يزأر بحماية المستهلك البسيط مثل (رالف نادر). ماذا كانت النتيجة: سقوط (نادر) السياسي إلى حد أنه لم يحصل إلا على صوته وصوت زوجته وأبنائه في انتخابات الرئاسة. مثال آخر: في أواخر السبعينيات الميلادية وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي وأثناء ارتفاع سعر البترول مما يقارب أربعة دولارات حتى وصل إلى أربعين دولاراً، في تلك الأثناء ضرب العالم كساد متوسط الحدة، وفكرت الولايات المتحدة الأميركية في أن تستخرج البترول من سواحلها ومن قلب أراضي ولاية ألاسكا، وذلك من أجل الضغط على أسعار البترول لتهبط وينتعش الاقتصاد الأميركي الذي يمثل ثلث الاقتصاد العالمي آنذاك. على رغم وجاهة هذه النظرية الاقتصادية أتعرفون ماذا حدث؟ قامت مظاهرات غاضبة على مثل هذا التشريع، وهدد الناخبون بسحب ثقتهم من بعض مرشحي دورة انتخاب مجلس الشيوخ القادمة حينها، والذين أبدوا موافقة على المشروع، فكانت النتيجة إزاحة التفكير عن أي محاولة لتلويث الشواطئ الأميركية وغابات ألاسكا عند استخراج البترول، والاكتفاء بما يُستخرج من البترول الأميركي في الصحاري الجنوبية والشرقية في تكساس وفي نيفادا، على رغم أن إقرار المشروع كان سيوفر على الخزينة الأميركية المليارات، لكن كل هذا يهون عند ميزان السخط والرضا الشعبي حول البيئة ومستقبل الأجيال. مثال آخر: كان لديّ أخ شقيق توفي إلى رحمة الله تعالى في عام 1983 في سويسرا، عاش هذا الأخ الحبيب الراحل ردحاً من الزمان هناك، واشترى كوخاً صغيراً في بلدة سويسرية صغيرة على الحدود مع فرنسا، وكان ملحقاً مع البناء حديقة قزمية لا تتعدى مساحتها ستين متراً مربعاً، في حديقة الكوخ السويسري كانت هناك شجرة صغيرة عند شراء أخي للأرض، كبرت الشجرة مع الأيام لخصوبة التربة وغدق المطر الذي لا يتوقف هناك، وعندما أخذت أغصانها تتمدد تجاه الكوخ وأوراقها تتساقط بكثافة في فصل الخريف، فكر أخي بقطع رأس الشجرة -فقط- والإبقاء على الجذع لعل هذا يخفف من مخاطر تمددها الأرضي، وعبء نظافة مخلفات أوراقها. في يوم القطع المشهود جاءت فكرة لمعاون أخي في أن يأخذ رأي رئيس بلدية هذه المدينة الصغيرة.. مجرد رفع العتب وبلاغ روتيني من وجهة نظر هذا المعاون الذي أخذَ بوجهة نظره.. رئيسه أخي. أما نتيجة هذا الطلب للبلدية فكانت مفاجئةً جداً: أحال رئيس البلدية الطلب للمجلس البلدي المكون من سكان منتخبين، والذين قرروا بالإجماع رفض طلب قطع شجرة أخي، بحجة أن الشجرة هي ملكه ما دامت لم تتعد طول السور الخارجي للكوخ، أما وقد تعدت حد السور فإنها أصبحت ملك الجميع يستمتعون بمنظرها الجميل وزيادةً لنسبة الأوكسجين في جو هذه المدينة الهادئة المنعزلة، الذي أكاد أقسم أن ذرة من أكسيد الكربون ليست مشاركة له على الإطلاق.. هناك. إن كان هذا الأمر يتعلق بشجرة صفصاف وسنديانة.. فماذا عسى أن يتم لو أن مزارعي البيض رفعوا الأسعار كإجراء ذاتي منهم دون أن يكون هذا داخل منظومة غلاء المعيشة العام، أو عائداً لإضراب مزارع الدجاج؟ الذي أنا متأكد منه هو أن الإجراءات الوقائية ضد الاحتكار ستأخذ مجراها بحق هؤلاء التجار أو المزارعين، إلى جانب تنظيم حملات لا تتسم بالعشوائية لمقاطعة البيض أو البطاطس أو أي سلعة مشابهة، حتى ولو كانت من أول ما يُوضع على موائد الغربيين. يقول لي أحد التجار المستوردين للأرز في بلادي إنَّ أطنانه من الأرز الهندي الذي قام باستيراده أثناء موجة الغلاء قبل أشهر بيعت جميعاً وبأسعار السوق المرتفعة ولم يلحظ أي انخفاض، على رغم السخط الشعبي -وحتى الحكومي- حول هذه الزيادات، ومع محاولات البعض الخجولة لتنظيم مقاطعة الأرز. لقد عاد الناس يأكلون الأرز بنهم ويدفعون أكثر دون أن يخبرهم أحد كيف يقاومون هذا الاستغلال؟ وليست لديهم بالطبع ثقافة ذاتية لتناول أطعمة بديلة هي متوفرة على أي حال وبكثرة وبأسعار معقولة قياساً بأسعار الأرز المرتفع في سعره. وما سبق وقلناه ينطبق أيضاً على المشروبات الغازية والسيارات والسلع الأخرى. للغرابة! بعد انتهائي من كتابة هذا المقال قال لي أحد الأصدقاء من دولة عربية إن أسعار اللحم قد زادت عن الرقم الذي أوضحته في الأسطر الأولى للمقال وكأن اللحم يضاهي الذهب والنفط في ارتفاعه، وما على الجميع والأمر كذلك إلا الإكثار من دعاء كشف الغُمة.