عاد العالم العربي ليقف على حافة الانتظار الطويل ثانيةًً. فهو ينتظر إما استجابة رئيس الوزراء الإسرائيلي للمطالب الأميركية عقب التوتر الذي ساد بين تل أبيب وواشنطن بسبب الإعلان عن بناء وحدات استيطانية جديدة في القدس، أو ينتظر رد فعل البيت الأبيض إزاء عدم استجابة إسرائيل لمطالبه. وفي كلتا الحالتين ففي الانتظار السلبي الطويل مضيعة لوقت ثمين ولفرصة عظيمة كان يمكن للعالم العربي أن يغتنمها للمضي في طريقه السياسي إلى الأمام. لا شك أن إدارة أوباما استشاطت غضباً من إعلان إسرائيل عن بناء وحدات استيطانية جديدة في مدينة القدس المحتلة. وقد كانت ردة الفعل الأميركية مباشرة وقوية وظلت على عنفوانها لعدة أيام أعقبت الإعلان الإسرائيلي. وفي الوقت نفسه أظهرت استطلاعات الرأي العام الأميركي التي أجريناها ميل شارع الولايات المتحدة لصالح موقف البيت الأبيض. غير أن نتنياهو استجاب لتلك الغضبة الأميركية باستقطابه دعم قاعدة تأييده الرئيسية في واشنطن. فقد كان ظهوره أمام المؤتمر السنوي لـ"إيباك" تحدياً مباشراً للرئيس أوباما. وبينما ظل أوباما ثابتاً على موقفه الرافض لذلك الإعلان الاستيطاني الإسرائيلي، واصل نتنياهو تعبئة قاعدته المؤيدة، وهي قاعدة عرفت بنشاطها في تنظيم حملات الرسائل الاحتجاجية الموجهة إلى الكونجرس، ونشر صفحات إعلانية كاملة في الصحف الأميركية، لانتقاد أوباما على ما وصف بأنه مناهضة منه لإسرائيل! وطوال هذا الوقت، لم يكلف قائد فلسطيني واحد نفسه مشقة الوصول إلى الولايات المتحدة للتعبير عن موقف شعبه من سياسات التوسع الاستيطاني الإسرائيلي هذه. صحيح أن فلسطين نفسها شهدت سلسلة من التظاهرات الشعبية، لكنها لم تفعل شيئاً ولم تقدم جديداً، ولم تترك أدنى أثر يذكر هنا في واشنطن. كما عقدت جامعة الدول العربية اجتماعاً دون أن تخلف وراءها أي أثر يذكر هي الأخرى. وهكذا فقد كان طبيعياً أن يتساءل كثير من الأميركيين عن طبيعة هذا الصراع الذي يجري بين إسرائيل وواشنطن، دون أن يكون للعرب أدنى حضور أو تأثير عليه؟ هذا، وتشير استطلاعات الرأي العام التي أجريناها إلى تأييد نسبة كبيرة من الأميركيين لتبني سياسات متوازنة بشأن النزاع. كما تؤيد أغلبية مقدرة حل الدولتين، إلى جانب الاعتقاد بضرورة إيجاد موقف حازم إزاء استمرار السياسات الاستيطانية التوسعية. وبينما تشير الأغلبية إلى تأييدها لموقف الرئيس الأميركي، فإن هذه الأغلبية نفسها تجهل ما يكون عليه موقف الفلسطينيين والعرب أنفسهم إزاء سياسات التوسع الاستيطاني. وهذا ما يترك قطاعاً كبيراً من الرأي العام الأميركي عرضة لوجهة النظر الأحادية الإسرائيلية، التي تنفي أن تكون السياسات التوسعية المتبعة من قبل تل أبيب، سياسات استيطانية بالأساس، وتميل بدلاً من ذلك إلى وصف الوحدات الاستيطانية الجديدة بأنها مجرد ملحقات أو وحدات سكنية مجاورة. ولما كانت مثل هذه الحجج المضللة تطرح لقطاع واسع من الرأي العام الأميركي، فهي تلعب دورها في تحييد وإرباك الكثيرين، وسط غياب الدور والتأثير العربيين. وسرعان ما تطور ما كان قد بدا في أول الأمر وكأنه إساءة إسرائيلية لنائب الرئيس الأميركي بايدن، إلى أزمة في العلاقات الأميركية -الإسرائيلية، لتنتهي إلى إعادة تأكيد واشنطن صلتها الأزلية القوية مع إسرائيل، في ذات الوقت الذي تتمسك فيه الإدارة بحزمة من الأهداف التي يصعب التوفيق بينها: التمسك بالحل السلمي التفاوضي للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني، الإصرار على أن تكف إسرائيل عن سلوكياتها وسياساتها الاستفزازية، متبوعاً بتوقف الفلسطينيين عن دفعها نحو تلك السلوكيات عادة، وأخيراً دعوة جميع أطراف النزاع إلى طاولات التفاوض. وأقصد بالتناقض هنا أنه ليس لحكومة نتنياهو أدنى رغبة في وضع حد لبناء مزيد من الوحدات الاستيطانية التوسعية، أو تغيير أي من سلوكياتها الأخرى إزاء الفلسطينيين. كما أقصد أنه ليس بوسع القيادة الفلسطينية الدخول في التفاوض مع الجانب الإسرائيلي في ظل السياسات والسلوكيات التي تتبناها تل أبيب. ويلاحظ أن موضوع النقاش الذي دار حول السياسات خلال فترة الأسابيع الستة الماضية، كان قد تمحور حول قيمة وطبيعة العلاقات الأميركية الإسرائيلية، وما إذا كان أوباما سوف يسعى إلى تغيير النظام الحاكم في تل أبيب. وفي كل هذه المحاور لم يرد أدنى ذكر للعرب ولا للفلسطينيين، رغم كونهم موضوع الحوار الرئيسي افتراضاً. والواجب الذي يتعين القيام به الآن، هو أن تنخرط القيادات العربية والفلسطينية خاصة، في حوار مباشر مع الرأي العام الأميركي، سواء بهدف الدفاع عن وجهة نظرهم ورؤيتهم للسياسات التوسعية الاستيطانية الإسرائيلية، أم فيما يتعلق بتصورهم للحل السلمي للنزاع. وفيما يبدو فإن هذه اللحظة، لا تزال تمثل محك اختبار وصراع إرادات سياسية بين ما تقوله واشنطن، وما تريده إسرائيل على الأرض. وكما نرى فإن الطرف الرئيسي الغائب في هذا الصراع هو العرب والفلسطينيون على وجه الخصوص. ولابد من صياغة جميع المظالم والسياسات التمييزية السلبية التي يتعرض لها الفلسطينيون، وكذلك حقوقهم الثابتة ومنها إعلان دولتهم المستقلة... في شكل رؤية حقوقية واضحة. وهذا ما يتطلب بروز شخصيات عربية فلسطينية قادرة على رواية هذه القصص، بما يساعد على إحياء القضية الفلسطينية في ذاكرة المجتمع الأميركي والدولي على حد سواء.