هذا موضوع طالما تطرق إليه المثقفون يعبرون من خلاله عن أمنية لهم وأمل. والقصد ليس استقلال المثقف أو المثقفين لأن القضية لا تتعلق بفرد أو جماعة بل هو متعلق بالثقافة ذاتها دون تشخيص لها في المثقف الفرد وحده. والمثقفون، أيضاً، لا يشكلون وحدة متجانسة واحدة بل هم أفراد، لكلٍّ هويته وتصوره لنفسه ودوره ورسالته وكيفية أدائها. وقد عُبر عن هذه المسألة من قبل أيضاً باسم مسؤولية المثقفين أو هموم المثقفين. وستظل قضية مطروحة لدى كل جيل، وفي كل عصر، طالما حوصرت الثقافة بين السلطة والشعب والتاريخ. والثقافة بدورها ليست مجرد معرفة نظرية. فهذا قد يصدق على العلم الرياضي أو الطبيعي. وليست مجرد معلومات ينقلها جيل عن جيل، فهذا هو التعليم بالمعنى التقليدي الضيق للعبارة. على العكس، الثقافة طاقة كامنة في وجدان المثقفين وفي حياة الشعوب. هي سلاح غير مرئي وأداة فاعلة للتغير الاجتماعي. هي دافع ذهني يحدد تصورات العالم لدى الأفراد والجماعات والشعوب، ويضع معايير السلوك، ويتحكم في الواقع الفعلي. فلا يتغير شيء في الواقع إن لم يتغير في الذهن أولا. وهذا هو الذي حدث للعرب بظهور الإسلام عندما أعطاهم التوحيد رؤية عامة تنعكس على وحدة البشر ووحدة المجتمع ووحدة الأسرة ووحدة الفرد بين قوتيه، النظر والعمل. وذات الشيء حدث في الثورة الفرنسية عندما مهد لها المفكرون الأحرار، فولتير ومونتسكيو وروسو، بتغيير أذهان الناس من سلطة الكنيسة والإقطاع والأباطرة إلى مبادئ الحرية والإخاء والمساواة. ليست وظيفة الثقافة تبرير الأمر الواقع أو الاختيارات السياسية للنظام القائم. فهذا بمثابة وضع العربة أمام الحصان. يجعلها تفقد بعض المبادئ والقيم الخاصة بها. وربما يفقدها أيضاً تصديقها وأثرها على الناس، فتصبح بمثابة جهاز موازٍ لأجهزة الإعلام على أقل تقدير، تدافع عن الاشتراكية مرة وعن الرأسمالية مرة أخرى طبقاً لتغير النظام السياسي. وتؤيد القومية مرة ثم القُطرية مرة أخرى طبقاً لتغير الاختيار السياسي. لا صلح ولا مفاوضة ولا اعتراف مع العدو الصهيوني مرة، ثم الصلح والمفاوضة والاعتراف مرة أخرى. مرة إسرائيل المزعومة ومرة أخرى إسرائيل حقيقة سياسية وجغرافية توضع في بعض الخرائط العربية. فتنشأ مشكلة تصديق الثقافة وأثرها في الناس. ويتم الحديث عن خيانة المثقفين. فوظيفة الثقافة ليست أن نعيش في إطار السياسة. وليست وظيفة الثقافة النزول تحت الأرض وكأنها انخراط في عمل سري. فالثقافة ليست جريمة لإخفائها. وليست تهمة للدفاع عنها. بل هي واجب وطني مثل الواجب الشرعي تجب ممارسته علناً وأمام الناس، حكاماً ومحكومين. مهمتها تنوير العقول، والنصح والإرشاد ليس عن طريق الوعظ والخطابة كما هو الحال أحياناً في الوعظ الديني لأئمة المساجد بل عن طريق التبصرة والاستبصار، والنذير بالعواقب، والإعداد للمستقبل. الثقافة جزء من عمليات التنمية بل وشرط لها فيما يسمى الآن التنمية البشرية أو التنمية المتكاملة. لا تمارس العنف اللفظي ولا تعد له. ولا تهرب من المواجهة العلنية ولا تدافع عن حقوقها بالقوة. ولا يعني ذلك عزلة الثقافة أو إيثارها السلامة كما تقول الأمثال العامية "الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح"، أو "أبعد عن الشر وغني له". بل تظل تحمل همَّ الفكر والوطن والتاريخ، همَّ الفكر باليقظة، وهمَّ الوطن بالكرامة والاستقلال، وهمَّ التاريخ بالمساهمة في التقدم ونقل المجتمع من مرحلة إلى أخرى. وهو ما سمي من قبل "الالتزام" في الثقافة. الثقافة الوطنية نضال من أجل خدمة الوطن، ومقاومة لقوى الظلم، وتبديد الخرافة والوهم. الثقافة كلمة حق وصدق يحتاج الناس إلى سماعها وخاصة في جو تسوده ازدواجية الخطاب. الثقافة النقدية هي التي تبصر المجتمع بالمسافة بين الواقع والمثال، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون. وترشد الناس إلى أفضل السبل لتقريب المسافة بين الاثنين في تطور طبيعي وتلقائي للمجتمعات. فإبقاء المسافة بينهما قد يدفع الواقع إلى التململ والغضب. كما يدفع المثال إلى التقوقع في الثقافة العالمة أو يتحول إلى طرق عرفانية يسهل فيها الصعود إلى أعلى بدلا من التقدم إلى الأمام. فالطريق سالك إلى أعلى، مسدود أو محفوف بالمخاطر والعقبات إلى الأمام. الثقافة هي تحمل المسؤولية التاريخية من أجل تقدم المجتمع. الثقافة تعمل للآجل، والحكم قد يعمل للآجل. تهم الثقافة استنارة العقل وتقدم المجتمع، ويهم الحكم استتباب النظام والاستقرار. مهمة الثقافة أيضاً الاستقلال عن جماعات المعارضة كسلطة بديلة بل ترشيدها حتى لا تقع في منطق السلطة. وتعود الثقافة إلى وظيفة التبرير وليس وظيفة الترشيد والتنوير. ولا فرق بين تغيير الواقع وتثويره على رغم ما يشوب لفظ "الثورة" من خوف واضطراب مفهومي أحياناً. تعني الثورة فقط تغيير الواقع وتحريكه ودفعه نحو المثل الأعلى. فغليان الماء لا يحول الماء. الثورة هي الثقافة في حدها الأقصى، وفي ذروتها الصاعدة، وفي قمة تحقيق هدفها كما يقول هربرت ماركيوز عن ثورة المثقفين في مايو 1968. وبفضل الثورة من قبل نجحت حركات التحرر الوطني في تحرير الأوطان من الاستعمار في الجزائر واليمن ومصر في 1919. ليست الثقافة عمل النخبة القائدة لجماهير تقليدية في ثقافتها بحيث يقع المجتمع في ازدواجية الثقافة بين النخبة والجماهير. وليست ثقافة المظاهر والديكور الاجتماعي والسياسي في الدول النامية كأحد مقومات الدولة الحديثة كالبرلمان والصحافة والجامعة والدستور. ولا هي الثقافة الوافدة من الغرب الحديث لادعاء الحداثة ومعرفة منجزات العصر مثل فنون العمران والبناء والطرق والفنادق والمطارات والسياحة بل هي الثقافة الشعبية المغروسة في قلوب الناس بما في ذلك الموروث التاريخي وأشكال التدين الشعبي. وكما تبدو في الأمثال العامية وفي التراث القديم وفيما يحرك الناس ويؤثر في وجدانهم مثل الشعر والزجل والسير الشعبية. والثقافة لا تخاصم أحدا بل تحاور الجميع. ولا تعمل ضد أحد، ولا تستبعد أحداً، بل تقبل كل رأي وتقابله بالرأي الآخر. فلا أحد يمتلك الحقيقة. الحقيقة رؤية، والرؤية منظور. الاستقلال الثقافي إذن في صالح الكافة. يقدم خطاباً مشتركاً بينهما بدلا من الخصومة المعلنة أو الصامتة. هي القادرة على إحداث التغير الاجتماعي على الأمد الطويل دون السكون مثل الموت. الثقافة هي الوسيلة لتحقيق الوئام الوطني والسلام الاجتماعي الذي يشعر الجميع بالحاجة إليه.