ندرك أن الصهيونية بلغت من القوة ما يدعوها إلى تحدي العالم كله، وإلى التحكم بتوجهات البيت الأبيض الذي حاول أن يخرج قليلاً من قبضة إسرائيل فجاءه مؤتمر "إيباك" أواخر مارس 2010 بمثابة جرس إنذار، فاضطر القادة الأميركان إلى التراجع سريعاً عما أعلنوه من نهج جديد شعاره التغيير والانتهاء من سياسة "المحافظين الجدد" الذين أشعلوا الحروب ضد العالم العربي والإسلامي وقتلوا وشردوا الملايين مفتعلين ذرائع وهمية. وكان أوباما قد تورط بخطب وجهها للعرب والمسلمين في القاهرة وإسطنبول دعا فيها إلى الحوار وتعهد بإقامة دولة فلسطين وبإحلال السلام، ولكن توجهاته وتصريحاته لم تعجب قادة إسرائيل وبخاصة تلك التي تعهد فيها بوقف الاستيطان في الأراضي المحتلة، وحين بدأ رسله يتوافدون إلى إسرائيل لإطلاق جولة جديدة من المفاوضات، أهانت تل أبيب نائبه، وأكدت أنها هي الأقوى في واشنطن، فقد ظهر نتنياهو في مؤتمر الـ"إيباك" طاووساً يختال، حتى إن "يديعوت أحرونوت" وصفت خطابه فيه بأنه كان استعراضاً للعضلات قبل لقائه أوباما الذي عاد يؤكد كل صباح هو ووزيرة خارجيته وكبار المسؤولين حوله التزام الولايات المتحدة بضمان أمن ومستقبل إسرائيل دون أي ضمان لأمن ومستقبل ملايين الفلسطينيين ولحقوق العرب والمسلمين. وكان البيت الأبيض قد بدأ حوارات تمهيدية مع سوريا أسفرت عن تحسن في العلاقات وصل إلى درجة تسمية سفير للولايات المتحدة في دمشق، وإلى وعود بالمرونة في تنفيذ قانون العقوبات ضدها، وقد توالت زيارات الوفود الأميركية العالية المستوى إلى دمشق، وكان المفسرون يحللون أبعاد هذا التحسن في العلاقات بأنه نوع من الإغراء لسوريا كي تقطع علاقاتها مع إيران وكي تقف ضد المقاومة في فلسطين وجنوب لبنان، وتذهب إلى الخندق الإسرائيلي لتقدم فروض الطاعة والولاء لقادة إسرائيل وأعوانهم. وقد أعلنت سوريا أن سياستها واضحة، وأن التزامها بالثوابت الوطنية ليس موضع نقاش أو مساومات، وقد تمكنت من إفشال سياسة العزل، ولاسيما حين شعر من سعوا إلى عزلها بأنهم هم الذين كانوا معزولين، وهذا ما صرحت به كل التقارير الأميركية التي ناقشت فشل سياسة العزل، وصرح به مسؤولون كبار في الولايات المتحدة وفي أوروبا. وقد تمكنت سوريا من بناء علاقات مهمة مع دول الجوار وبخاصة مع تركيا التي تجمعها مع العرب ثقافة واحدة وتاريخ مشترك. كما استعادت صلات متينة مع عدد كبير من دول العالم من أهمها فرنسا التي أبدى قادتها تفهماً للموقف السوري، ووطدت سوريا صلاتها القوية مع إسبانيا وإيطاليا، ومع عدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي، وأوشكت أن توقع اتفاقية الشراكة التي هي اليوم قيد النقاش حول بعض القضايا التقنية. وكانت علاقات سوريا الدولية مع دول كبرى مثل الصين والهند ومع دول العالم الإسلامي مثل إندونيسيا وماليزيا وسواها تزداد قوة ورسوخاً، بل إن سوريا بدت عامل استقرار وتنمية مهمة في المنطقة حين وطدت علاقات عريقة مع دول ذات خصوصية في علاقاتها البينية مثل أذربيجان وأرمينيا وتركيا، وبات دورها في البلقان فاعلاً نحو مصالحات وتفاهمات وروابط اقتصادية تحقق مصالح الشعوب في المنطقة، كما أن علاقات سوريا مع دول أميركا الجنوبية تطورت بشكل ملحوظ وبخاصة مع فنزويلا. وهذا النجاح الدبلوماسي السوري الواسع أزعج إسرائيل فوق انزعاجها التاريخي من حرص سوريا على علاقتها مع إيران ووقوفها الراهن مع حقها في أن يكون لها برنامج نووي لأغراض سلمية، وإصرارها على أن يقف العالم موقفاً عادلاً في مواجهة ترسانة إسرائيل النووية. وقد عبر نتنياهو عن استخفاف بقادة الولايات المتحدة حين رفض حضور قمة الأمن النووي التي دعا إليها الرئيس الأميركي، وأزعجه مؤتمر طهران النووي الذي طالب بتفتيش منشآت إسرائيل النووية، وكبر المأزق الذي تواجهه إسرائيل، ولاسيما بعد أن فقدت احترام العالم كله إثر حربها على غزة واستمرار حصارها الهمجي على القطاع وإعلانها طرد شعب فلسطين من بقية أرضه، وإصرارها على تهويد القدس وكل الأراضي المحتلة، وبات ضروريّاً لها كي تلفت الأنظار عن جرائمها المتصاعدة في منطقتنا أن تخترع أكذوبة جديدة تشغل العالم بها، وتقدم ذرائع للولايات المتحدة كي تتفلت من توجهاتها الدبلوماسية التي بشرت العالم بعصر جديد ينتهي فيه طوفان الدم، وجاءت الأكذوبة الملفقة أن سوريا تمد "حزب الله" بصواريخ "سكود"، وصعدت إسرائيل فجأة لغة التهديد التي تخلق مزيداً من التوتر في المنطقة كلها. وعلى رغم أن الطائرات الإسرائيلية والأميركية تحلق صباح مساء حول أراضي لبنان وبوسعها أن تصور حركة النمل -كما يقال- فإن إسرائيل لا تملك أي دليل على أكذوبتها ولكنها تستلهم أكذوبة الولايات المتحدة حين ادعت أن لدى العراق أسلحة دمار شامل. ويبدو مؤسفاً أن تستجيب الولايات المتحدة لمزيد من الأكاذيب، وأن تستسلم أمام إرادة إسرائيل في مزيد من التدمير للعالمين العربي والإسلامي. كما يبدو مؤسفاً ومخجلاً أن تصل الأمة العربية والإسلامية إلى هذا الدرك من الذل والصمت المريع ولاسيما في بعض وسائل الإعلام التي راحت تردد أكاذيب الصهيونية بحيادية ودون فضح للنوايا الإسرائيلية وأخطارها. ونحن نعلم أن الحرب تعني دماراً كبيراً، ولم نقل يوماً إننا نسعى إليها، بل أكدنا للعالم كله حرصنا على استعادة حقوقنا العربية كلها عبر التفاوض والتسوية لكي نجنب شعبنا والمنطقة كلها خطر الدمار وويلات الحروب، ولكننا سنبقى متمسكين بحق شعبنا في المقاومة، فإذا كانت الحرب أياماً أو شهوراً فإن المقاومة أبدية، وتدرك إسرائيل أنها لم تعد قادرة على أن تدمر الآخرين دون أن يصيبها الدمار الذي لن تطيق تحمله. كما تدرك أن أي حرب قادمة لن تكون محدودة، فلسوف يتسع نطاقها ويكبر، وليس بوسع إسرائيل أن تنعم بالأمان يوماً واحداً حتى لو حققت نصراً سريعاً خاطفاً عبر تدمير وحشي لأية مدينة عربية. فقد فعلتها الولايات المتحدة في أفغانستان وفي العراق، وفعلتها إسرائيل في غزة وفي جنوب لبنان، ولكنها لم تحقق أماناً ولم تشكل ضماناً لمستقبل، بل منحت ما تسميه إرهاباً فرصة لجعل المنطقة ساحة كبرى للانتقام. والمريع أن إسرائيل التي تعيش على جملة أوهام أسطورية لا تتعلم شيئاً من دروس التاريخ، أما نحن العرب والمسلمين فقد علمتنا الفواجع والمآسي كيف ننهض جيلاً بعد جيل. ولا يغيب عن المجتمع الدولي أن تهديدات إسرائيل وأكاذيبها الجديدة تهدف إلى صرف الأنظار عن سياساتها الفظيعة في الأرض المحتلة وبخاصة مشروع "الترانسفير"، وإذا ما كانت جادة في التهديد وعازمة على شن حروب ضد إيران أو سوريا أو لبنان فهي إذن تقود المنطقة إلى جحيم أكثر فظاعة مما جرى منذ مطلع القرن إلى اليوم.