كثيراً ما نظر الحقوقيون وناشطو الحريات المدنية بقدر من الضبابية وعدم وضوح الرؤية إلى حق الفرد في المثول القضائي وإجراء التحقيق بشأن اعتقاله، باعتبار أن ذلك من أعظم التشريعات التي سنها العالم الناطق باللغة الإنجليزية على وجه الخصوص. هكذا يبدأ مناقشته لهذا الموضوع بول هاليداي، مؤلف كتاب "حق المثول القضائي والتحقيق في أسباب الاعتقال"، والذي نعرضه هنا بإيجاز، فعلى سبيل المثال وصف السياسي الراديكالي الإنجليزي تشارلس جيمس فوكس، حق الفرد في المثول القضائي، أثناء جلسة برلمانية عقدت في عام 1777 بأنه أعظم إنجاز تشريعي قضائي حققته بريطانيا لصيانة حريات الأفراد، ونعى في الوقت نفسه على كل من تسول له نفسه محاولة انتزاع الحرية الكبيرة التي نص عليها ذلك التشريع، من الأفراد والسجناء المعتقلين لمختلف الأسباب. لكن، وبعد مضي ما يقارب الـ230 عاماً على سن ذلك التشريع الإنجليزي، شن بعض أعضاء الكونجرس الأميركي هجوماً عنيفاً على الرئيس السابق بوش الابن، بسبب إصداره أمراً رئاسياً بتعليق حق المثول القضائي والتحقيق في أسباب ما وصفهم بـ"الأعداء المقاتلين غير الشرعيين"، في إطار الحرب الشاملة التي شنها على الإرهاب عقب هجمات 11 سبتمبر. وبرز بين أعضاء الكونجرس انتقاد الرئيس الحالي، أوباما، الذي كان حينها عضواً في مجلس الشيوخ بقوله الشهير: "أتمنى ألا أسمع أننا بتنا نعيش في عالم جديد، نواجه فيه عدواً جديداً لا تنطبق عليه نصوص القانون". وبالنبرة الغاضبة نفسها، علا صوت سيناتور آخر هو آرلين سبكتور بالقول: "لقد رسخت التشريعات التي تنص على حق الفرد في المثول القضائي والتحقيق بشأن اعتقاله، في نصوص الماجناكارتا منذ عام 1215. أما الأمر الرئاسي الجديد الذي أصدره بوش بتعليق العمل بتطبيق ذلك التشريع على أسرى الحرب ضد الإرهاب، فيسعى إلى هدم ما تم بناؤه من صروح عدلية قانونية ظلت تحفظ للسجناء حقوقهم وكرامتهم وحريتهم الإنسانية منذ 900 عام". ومن بريطانيا كذلك علا انتقاد اللورد هوفمان -وهو قانوني كلف بمراجعة لأعمال "أوامر الرقابة" التي تصدرها حكومة بلاده بهدف اعتقال المشتبه بارتكابهم جرائم الإرهاب، في عام 2007. فقد جاء في مراجعته لتلك الأوامر قوله: "إن ما قمنا به في هذا المجال الحقوقي يعد نقضاً لأي اعتقال للأفراد دون محاكمتهم أو تقديم اتهامات محددة لهم. إنه الرباط الوثيق بين هذا البلد وحق المثول القضائي والتحقيق في اعتقال الأفراد وحبسهم. والمقصود بذلك أن حق الفرد في التمتع الكامل بحريته عادة ما يعلو حتى على اعتبارات الأمن الوطني نفسها". لكن رغم تلك الاحتجاجات الصارخة المدافعة عن حق المثول القضائي والتحقيق في اعتقالات الأفراد، طالما تعرض ذلك الحق للتعليق أو التقييد في حالات كثيرة. وشمل هذا التراجع حتى مواقف أكثر الليبراليين دفاعاً عن هذا الحق. فها هو أوباما نفسه وقد تراجع موقفه العملي من ذلك الحق في عام 2008، مقارنة بحدة الانتقادات التي كان وقد وجهها إلى الرئيس بوش، أثناء حملة السباق الرئاسي لعام 2008. فرغم توصل حكم صادر عن المحكمة الأميركية العليا، إلى عدم سلب معتقلي سجن جوانتانامو من حق المثول القضائي والتحقيق في أسباب اعتقالهم في عام 2008، صدم أوباما أوساط المدافعين عن حقوق الإنسان والحريات المدنية في بلاده، بمطالبته بتمديد نزع ذلك الحق من نحو 600 معتقل آخر من معتقلي الحرب على الإرهاب في قاعدة باجرام الجوية بأفغانستان. والملاحظ أن المؤلف قصد تفادي هذا السجال الخلافي خلال تناوله للموضوع في هذا الكتاب الذي يستعرض تاريخ حق المثول القضائي والتحقيق في أسباب اعتقال الأفراد في العالم الأنجلوفوني القديم والحديث. لكنه يبدأ مناقشته للأمر اعتباراً من أن هذا الحق قد شرع كي يكون أداة قانونية لمناهضة السلطة العشوائية المطلقة في الأساس. غير أن المصدر الذي صدر عنه هذا التشريع في بريطانيا، هو القصر الملكي. وما مطالبة الهيئة القضائية التابعة للقصر الملكي، بمثول الشخص المتهم أمامها مثولاً عضوياً والتأكد من صحة أسباب حبسه أو سجنه، سوى انعكاس لالتزام البلاط الملكي الحاكم بصيانة حقوق رعاياهم، مقابل طاعة الرعايا وولائهم للبلاط الملكي. غير أن المؤلف لاحظ أثناء دراسته التاريخية التي شملت تقصيه لتطور ممارسة هذا القانون خلال قرون طويلة، إلى أن قانون المثول القضائي لعام 1679 -أي ذلك التشريع الذي سعى لإعطاء نفوذ قانوني لوثيقة الحقوق الصادرة عن مجلس العموم، هو الذي أفسح المجال لاحقاً أمام تراجع ذلك التشريع المهم وتضاؤل دوره عبر الحقب والعصور المختلفة. عبدالجبار عبدالله الكتاب: حق المثول القضائي: من إنجلترا إلى الإمبراطورية المؤلف: بول هاليداي الناشر: مطبعة جامعة هارفارد تاريخ النشر: 2010