حطت طائرتنا العسكرية بالقرب من حقل للخشخاش الوردي في إقليم هلمند، وسرعان ما وجدنا أنفسنا نمشي عبر أحد حقول القمح، ثم عبرنا حفرة ري موحلة، إلى وسط مرجة، وهي بلدة انتزعها جنود "المارينز" والجيش الأفغاني من قبضة "طالبان" في فبراير الماضي. وهي العملية، التي تم خلالها طرد "طالبان" من مرجة، واعتبرت نوعاً من الاختبار التجريبي بالنسبة للحملة العسكرية المقبلة في إقليم قندهار المجاور؛ ولذلك، فإن من المهم بالنسبة لقادة الجيش الأميركي فهم نجاحات عملية مرجة وعيوبها. وقد زرتُ البلدة الواقعة جنوب أفغانستان أواخر الشهر لماضي بمعية مايكل مولن، قائد هيئة الأركان المشتركة الأميركية، الذي كان يرغب في تقييم حصيلة الوضع عن كثب. وبسرعة شققنا طريقنا نحو مجمع ذي جدران طينية يحيط بمبنى مكتب حاكم المنطقة القديم المؤلف من طابقين. وهناك تربع "مولن" على سجاد أحمر بينما بسط الضباط الأميركيون والأفغان خرائطهم وشرعوا في سرد قصصهم الحربية: لقد اكتسحوا البلدة بسهولة وأمَّنوا معظمها في غضون بضعة أيام، كما يقولون، لأن مقاتلي "طالبان" اختفوا عموماً بعد مواجهات قصيرة في البداية، لتتقدم الحملة العسكرية. ولكن المقاتلين يحاولون الآن التسلل إلى مرجة قصد اختبار النظام الجديد؛ وبالتالي، فإن الحاجة الرئيسية اليوم، يقول الضباط، هي لأفراد الشرطة، وليست للجنود، وذلك للحفاظ على ما تحقق. وبعد ذلك وقف غلاب منجال، حاكم إقليم هلمند وصاحب العمامة المتحمس، ليُطلع "مولن" على ما أنجز قائلا: "إن التحدي الرئيس الذي أواجهه الآن هو الفوز بقلوب الناس... لأننا إذا لم نفز بتعاطف الناس، فلن نفوز بالحرب، في النهاية". وهذه المهمة، كما يعترف منجال نفسه، ما زالت بعيدة عن التحقق. فعندما وصل المارينز إلى مرجة، أعلنوا أنهم جلبوا معهم "حكومة في صندوق" -إدارة محلية مجهزة بالكامل توفر الخدمات وتوزع المساعدات القادمة من كابول وواشنطن على المنطقة التي تعتمد على الزراعة. ولكن عندما فُتح الصندوق، لم يكن ثمة الكثير بداخله. فمن أصل ستة وزراء كان يفترض أن يأتوا إلى مرجة، لم يكلف نفسه عناء السفر إلا وزير واحد منهم فقط -وزير التنمية القروية- الذي كان يتحلى بما يكفي من الشجاعة للقدوم، في ما آثر الآخرون المكوث في عاصمة الإقليم لشكر جاه، التي تنعم بأمن نسبي. وفي هذا السياق، يقول مسؤول أميركي إن الأمر كان "بطيئاً للغاية... إذ من الصعب جدّاً دفع موظفين للقدوم إلى مكان مثل هذا"، معترفاً بأنه "ربما لم يكن من الجيد استعمال عبارة حكومة في صندوق)". ولكن حتى في غياب إدارة مدنية فعالة، فإن الأفغان يعرفون بضعة أمور حول الديمقراطية. فقد التقى مولن ومنجال لمدة ساعة تقريباً مع 31 مزارعاً وتاجراً كانوا يتحلون بما يكفي من الشجاعة للقدوم والتحدث مع أميرال أميركي وحاكم زائر على رغم علمهم بأن "طالبان" لا ترضى على ذلك. وكانوا مجموعة من الرجال في منتصف العمر ممن عاشوا تحت حكم الشيوعيين، وزعماء الحرب، و"طالبان"، واليوم قوات "المارينز"؛ وقد عينوا شابّاً قوي البنية يدعى حجي عبدالسلام ليتحدث باسمهم. وهذا الرجل، الذي كان متوتراً قليلا في البداية ويحمل ورقة مطوية دوّن عليها مطالب السكان، تلا على الزائرين احتياجات القرية: "التعليم غير متوفر تقريباً؛ ولذلك، فنحن نريد التعليم... ونريد الرعاية الصحية، ونريد طبيبات وممرضات". وواصل قراءة القائمة: طرق جديدة، إصلاح قنوات الري، تخزين أفضل للمحاصيل... ومن جهته قال منجال نعم لكل شيء: "سأبني مدرسة، وسأجعلهم يبنون طريقاً، وسأقود سيارتي على هذه الطريق". ولكنه طلب منهم شيئاً واحداً في المقابل: "العام المقبل، يجب ألا يقوم أي أحد بزراعة الخشخاش". هنا تبادل المزارعون النظرات التي سرعان ما تحولت إلى احتجاج مهذب، ثم قال أحد الرجال: "إنني أزرع الخشخاش لأنني لا أملك وسيلة أخرى لأكسب بها قوت يومي"، في ما قال آخر إنه من السهل تخزين الأفيون وشحنه في حين أن المحاصيل الأخرى تفسد وتتلف قبل أن تصل إلى السوق، مضيفاً " لا أحد سيقوم بزراعة الخضار قبل أن يكون لدينا مصنع هنا". غير أن الحاكم ، الذي ذاع صيته كمناوئ قوي لزراعة الأفيون، ظل متمسكاً بموقفه وقال: "لا خشخاش... يعني لا خشخاش". وبحلول وقت الغداء، كانت بعض الأشياء قد اتضحت: فحتى في مرجة، حيث كانت العملية العسكرية سريعة وناجحة، فسيستغرق التقدم السياسي والاقتصادي وقتاً طويلا. وسيكون النصر، في نهاية المطاف، عصيّاً وصعب المنال على الحكومة الأفغانية إن هي فشلت في توفير ما يحتاجه الشعب. والواقع أن أفغانستان تعاني فقراً مدقعاً؛ فالمدن والقرى على حد سواء هي عبارة عن مجموعات من المنازل الطينية التي يفتقر معظمها إلى الماء؛ وتنتشر فيها أدخنة وروائح مواقد الطهي والمراحيض الواقعة خارج البيوت. أما الأطفال فحفاة الأقدام يلعبون بالعصي والحجارة؛ وكرة القدم والملاعب الترابية تعتبر هنا نوعاً من الترف. غير أن الأفغان، الذين تمكنوا من الصمود في الجبال القاسية والوديان الجارية، هم أناس حين يستقبلون ساستهم -والجنرالات الزائرين من واشنطن- ينظرون إليهم مباشرة في العين، ويطلبون ما يحتاجونه ويشتكون مما لا يحبون، مثل الفساد والإصابات في صفوف المدنيين. والواقع أن كلا من مولن والجنرال ماكريستال، الذي يقود القوات الأميركية وقوات "الناتو" في أفغانستان، يقولان إنهما واثقان بأن التقدم الحقيقي تحقق على الجانب العسكري من المعادلة؛ ذلك أن فرق العمليات الخاصة قتلت أو اعتقلت العشرات من زعماء "طالبان"، كما يقول محللو المعلومات الاستخبارية إنهم بدأوا يرون مؤشرات على تفكك حركة التمرد. غير أن ذلك، مثلما يعترفون هم أنفسهم، ليس سوى نصف الصورة فقط. أما النصف الآخر -النصف الذي ينبغي أن يبقى موجوداً بعد أن يشرع أوباما في خفض عديد قواته في يوليو 2011- فهو حكومة أفغانية أكثر فعالية وأقل فساداً بشكل تستطيع معه أن تستحق دعم شعبها. دويل ماكمانوس محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"