نشأ مفهوم "الحسبة" في الإسلام كوسيلة لمقاومة طغيان المعاصي الدينية، التي ربما تضر الإنسان في دنياه أو آخرته. ومع نفوذ السياسي على التدوين الفقهي تم اغتيال الدور الدنيوي للحسبة. اقتصر دور المحتسب على أن ينكر قائمة معروفة من المعاصي الدينية. خرجت المعاصي المدنية من الحسبة، وذلك لغرض تحويل الواقع كله إلى كلأ مباح للخليفة وشرطته، بل تصبح المدينة كلها رهن أصبعه، ورهن رغباته الشخصية في الغالب. لهذا فإن المعتزلة يرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفهوماً لتغيير الواقع المدني الواجب إنقاذه من الظلم والجور، بل حاولوا تغيير المجتمع وانتشاله نحو واقع أفضل، من خلال تمدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بعد قمع المعتزلة اختطف السياسي هذا المفهوم ليضرب به المجتمع، بعد أن كاد المجتمع عبر المد المعتزلي أن يكسر بهذا المفهوم كرسيّه الواهي، مرسخاً لشراكة مدنية في الحكم. لهذا بقيت المعاصي الدينية هي المناهي الكلاسيكية لدى المسؤولين عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في التاريخ الإسلامي. نسي الناس المعاصي المدنية، بل غرقوا بها أشدّ الغرق. أصبح المرء يقرّع الآخرين محذراً من أمور خلافية كالإسبال وحلق اللحية، بينما يسكت عن حلق جسد مجتمع بأكمله، وحين يغفل عن ملاحظة مخالفة سير تودي بالأرواح، تراه يطارد مراهقاً لبس بنطالاً غريباً. إن المعاصي المدنية هي بنفس مستوى خطورة المعاصي الدينية، بل ربما تكون أشد خطراً، لأن الكثير من المعاصي الدينية خطرها لازم للشخص، بينما المعاصي المدنية متعدية ومتعلقة بأرواح وأموال وأعراض الآخرين، ونحن نعلم أن مقاصد الشريعة قامت على حفظ النفس، والعقل، والعرض، والدين، والمال. هذه الخمس محل إجماع بين المسلمين، والكثير من المعاصي المدنية تهدد تلك المقاصد. صارت المعصية المدنية مغفورة مهملة، والمعصية الدينية مرصودة منكرة لا يمكن أن تغتفر لدى المجتمع، وهذا هو الفرق الجذري بين مجتمعاتنا والمجتمعات المتحضرة، التي تلجأ لاعتماد المنطق في مثل هذه الحالات. منطقياً المعصية الدينية أمر بينك وبين الله هو الذي يحاسبك عليها، لكن المعصية المدنية هي المتصلة بعصب عيش الناس اليومي، فربما أدت معصية مدنية واحدة إلى إزهاق أرواح عبر المخالفات المرورية، أو إلى اغتصاب حقوق كأن تستبيح ورث أيتام، أو أن تغتصب مال أرملة، حينها لا يهمّ المجتمع عدد الركعات التي تصليها في الليل تلك ركعات يحاسبك الله عليها، لكن المجتمع ربما غفر له تلك المعاصي المدنية الفادحة لمجرد مشاهدة زهده الظاهر وتردده على المساجد. من الطبيعي أن يتحمّس الناس لتجنب المعاصي الدينية، وهي منقبة على أية حال أن يسعى الإنسان إلى التقرب إلى رضا ربه عبر اجتناب ما نهى عنه، غير أن المفارقات التي ينتجها المجتمع، أي مجتمع هي عبارة عن شواهد تغري الباحث لرصدها إما لنقدها وإصلاحها، أو لدراستها والاعتبار منها، فالمجتمعات الإسلامية تحرص –ولو بشكل لفظي ولغوي- على تجنب المعاصي الدينية، وتوزع المطويات والنشرات، والأشرطة والكتيبات، التي تسترسل في سرد المعصية وعقوبتها وكفارتها، لكننا غفلنا عن المعاصي المدنية، وهذه هي المشكلة. آن الأوان أن نعيد الاعتبار لمفاهيم الدنيا لتصبح قرينة ومساعدة لمفاهيم الدين، فالدنيا ليست ضد الدين، بل هي مكملة له، لكن في الوقت نفسه، لا يمكن فهم الدنيا عبر الفتاوى الدينية، والنبي عليه الصلاة والسلام، كما في البخاري في قصة تأبير النخل، قال لأصحابه: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، فلا أقل من الحديث عن الدنيا مع أصحاب الاختصاص الدنيوي، لئلا تدخل مفاهيم الدين الثابتة على مفاهيم الدنيا المتغيرة، وهذا هو الأهم.