عرضنا في الحلقات السابقة لتطور الهوية العربية عبر التاريخ متبعين المسار "الرسمي" للتاريخ العربي الإسلامي وتطور مسألة الهوية في هذا المسار بين ما أسميناه بـ"الهوية الجامعة" التي تضم في أحشائها أو أطرافها "هويات خاصة"، إقليمية وطائفية.. الخ. واليوم سنركز على ما يغفل عادة عندما يكون خط السير محكوماً بالمسار العام في كل مجال. وفيما يخص موضوعنا نريد هنا أن نضع بين قوسين المسار العام الذي تحدثنا عنه، ومن داخله، في الحلقات السابقة التي ركزنا فيها على "الهوية الجامعة" خلال العصور الإمبراطورية: انطلاقاً من الأمويين فالعباسيين فالعثمانيين. وقد انتهى بنا ذاك إلى الوقوف على عتبة مجال جديد طرح فيه شعار "العروبة" في مقابل تحديات القومية التركية الطورانية التي أعلنت عن استقلالها فكونت دولتها وألغت ما كنا نعبر عنه في المقالات السابقة بـ"الهوية الجامعة" أعني نظام "الخلافة"... أقول نريد هنا أن نضع هذا المسار "الرسمي" العام بين قوسين لنفتح أعيننا على ما قد يكون هناك من مسارات أخرى كانت لها خصوصياتها في عملية "تشكل الهوية"، خصوصيات مكنتها بهذه الدرجة أو تلك من أن تشق لنفسها مساراً مختلفاً عن المسار العام، في أطرافه أو خارجه تماماً. ومع أن أقطاراً عديدة عرفت تموجات خرجت بها أحياناً عن ذلك المسار العام، ولكن دون أن "تقطع" مع الهوية الإمبراطورية الجامعة نهائيّاً، مثل اليمن ومصر، فإن التجربة التاريخية للمغرب الأقصى مختلفة تماماً. ومع أن وصف "الأقصى" قد أطلق عليه لبعده الجغرافي عن المركز الإمبراطوري في المشرق (دمشق، بغداد، ثم الأستانة)، فقد ترتب عن هذا البعد على مستوى الجغرافيا ابتعاد على مستوى التاريخ: التاريخ الذي شيده المغرب لنفسه، والتاريخ كما دونه مؤرخو الدول والممالك في "المصر الكرسي" بالمشرق. ومن أجل جلاء ما ترتب عن "الابتعاد والإبعاد" على مستوى كل من الجغرافيا والتاريخ، وبالتالي كشف الغطاء عن خصوصية تشكل واستقلال الهوية في المغرب من أجل إعادة ربط التاريخ بالجغرافيا، خصوصاً في عصرنا الحاضر الذي هو عصر الاتصال والتواصل والعولمة، عصر اندماج التاريخ في الجغرافيا والجغرافيا في التاريخ... من أجل هذا الهدف إذن، ارتأينا الوقوف قليلا مع التجربة المغربية التي نحس نحن المغاربة أن إخواننا جمهور المثقفين، أحرى العامة، في المشرق أقل اطلاعاً عليها، وبالتالي أقل اهتماماً، بشؤون المغرب العربي من اطلاع واهتمام الناس، خاصة وعامة في المغرب، بشؤون المشرق. وسنرى كيف أن هذه الرؤية "وحيدة الاتجاه" كانت وراءها عوامل موضوعية ما زالت تفعل فعلها إلى الآن. وبما أن موضوعنا يتعلق أولا وأخيراً بمسألة الهوية، والهوية الوطنية تخصيصاً، وبما أن هذه إنما تتشكل وتتطور ويحصل الوعي بها، بهذه الدرجة أو تلك، داخل "جماعة بشرية تتعرف على نفسها بارتباطها ببقعة من الأرض (وطن) على مدى التاريخ ويجمعها الشعور بكونها تشكل مجموعة سياسية واحدة (أمة وليس مجرد قبيلة أو طائفة)، بما أن الأمر كذلك فإن من الضروري -منهجيّاً على الأقل- تحديد معالم ومضامين "المجال الاجتماعي/ السياسي" الذي نشأت فيه وتشكلت هذه الهوية أو تلك. وفي هذا الميدان يمكن التأكيد بدون تردد أن المغرب (الأقصى) هو الوحيد، من بين الدول العربية والإسلامية، الذي ظل فيه المجال السياسي الإسلامي التقليدي، بصورته الأولى، قائماً منذ أن بدأ تقنين هذا المجال في التجربة الحضارية العربية الإسلامية، أي منذ العصر العباسي الأول الذي كان عصر تدوين وتقنين وترسيم، وهو نفسه العصر الذي قامت فيه بالمغرب دولة مستقلة عن الخلافة العباسية، هي دولة الأدارسة. كان مؤسس هذه الدولة -حسب تعبير المؤرخين- هو إدريس الأول، الذي فر لاجئاً، إلى المغرب، زمن هارون الرشيد، بعد موقعة فخ (قرب مكة سنة 169هـ)، التي ساند فيها بني عمومته من العلويين الذين ثاروا على الجيش العباسي فانهزموا. ويتعلق الأمر بإدريس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، (فهو من ذرية الحسن بن علي الذي تنازل لمعاوية عن حقه في الخلافة، وليس من ذرية أخيه الأصغر الحُسين الذي ثار على يزيد بن معاوية فقتل في كربلاء). وهذه الملاحظة ضرورية لاستبعاد انتماء هذا الرجل إلى "الشيعة الإثني عشرية" التي لم تكن قد برزت بعدُ كفرقة ذات نشاط دعائي سياسي. فالإمام الذي تنتمي إليه وهو موسى الكاظم لم تخلص له الإمامة من بعد وفاة أبيه جعفر الصادق المتوفى سنة 143 هـ، إلا بعد صراع مع أتباع أخيه إسماعيل الذي كان مرشحاً لخلافة أبيه قبل وفاته. لقد انقسم أتباع الإمام جعفر إلى إسماعليين وموسويين وتطور النزاع بينهما إلى انفصال الإسماعيلية عن الموسوية (نسبة إلى موسى الكاظم) التي لن تحمل اسم الشيعة الإثني عشرية إلا بعد غيبة إمامها الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري سنة 328هـ، أي بعد أزيد من قرن ونصف من دخول إدريس إلى المغرب. وعلى العموم لم تكن هناك في المغرب الأقصى أية آثار للدعوة الشيعية إلا بعد قيام الدولة العبيدية في تونس عام 296هـ وظهور بني عافية في أواخر الدولة الإدريسية التي خاضت ضدهم حروباً ضارية إلى أن سقطت عام 375هـ. وإذن فلم تكن هناك في المغرب دعوة شيعية يمكن أن يقال إنها هي التي جعلت إدريس يلجأ إلى المغرب بعد هزيمة ثورة العلويين ضد العباسيين في "فخ". لقد اختار إدريس الفرار إلى المغرب، وبالضبط إلى مدينة وليلي Volubilis العتيدة التي تقع وسط المغرب قريباً من مكناس. إنها مدينة/عاصمة يمتد تاريخها العمراني السياسي إلى ما قبل الميلاد بقرون. كانت وليلي على عهد الإمبراطورية الرومانية عاصمة لما عرف في عهدها بموريتانية الطنجية Maurétanie Tingitane (نسبة إلى طنجة- المغرب)، في مقابل موريتانية القيصرية césarienne(نسبة إلى القيصر ِCésar) التي كانت تضم الجزائر وتونس. أما لفظ موريتانيا Mauritania فهو نسبة إلى المور Maure، في مقابل نوميديا، Numidia، ومنها Nomados ،Nomade بمعنى البدو الرحل. وهي أسماء رومانية. وقد كانت وليلي في العهد الروماني تتمتع بنوع من الحكم الذاتي، حيث يسيرها قضاة (شيوخ منتخبون). وبعد أن دخلت في الإسلام هي وأهلها وعانت هي وقبائل شمال إفريقيا من عسف الولاة الأمويين وقاومت الفتح الإسلامي لمدة طويلة قام فيها نوع من الحكم الذاتي، وذلك ينسجم مع التقاليد القبلية أيضاً. وعندما وصل إدريس المغرب (منفرداً مع خادم له يسمى راشداً) ، استقر في مدينة (وليلي) عند كبيرها يومئذ عبدالحميد بن إسحاق الأوربي (نسبة إلى قبيلة أوربة)، وكان ذلك "في غرة ربيع الأول" سنة 172هـ (788م)، فدعا عبدالحميد عشيرته أوربة -وهي من أكبر عشائر أمازيغ المغرب- لمبايعة إدريس قائداً وأميراً وإماماً، فكانوا أول من بايعه (يوم الجمعة 4 رمضان 172هـ)، وتلقب بـ"أمير المؤمنين". ما يهمنا من المعطيات السابقة هو أن جذور خصوصية "الهوية الوطنية" في المغرب تمتد بعيداً إلى ما قبل الإسلام بقرون، وأنها قد اتخذت مساراً مختلفاً عن مسار "الهوية الجامعة"، على عصر العباسيين، بتأسيس دولة الأدارسة. والسؤال الآن هو كيف تحددت خصوصية "الهوية الوطنية" في المغرب منذ قيام هذه الدولة؟