بعد الانتخابات التي يتساوى فيها الفوز مع الخسارة، وبعد الحكومة التي تتحكم بها المعارضة وتشارك فيها لكنها تعارضها في آن، وبعد الأكثرية التي ترفض الأقلية الاعتراف بأكثريتها بل تتحداها وترهبها... لا تزال السياسة -أو بالأحرى اللاسياسة- اللبنانية تستنبط قواعد سلوك لإدارة مسرحها العبثي. فالذين يقولون ويعملون من أجل تعزيز مكانة "الدولة" ودورها ومرجعيتها، يُواجهون بالسخرية والاتهامات الجاهزة بكل ما يُفترض أن يرتد عليهم لو كانت هناك دولة قادرة. هناك لجنة حوار وطني تختص بمعالجة الخلافات القائمة بغية بلورة مواقف ومفاهيم وحلول لتصبح أسساً للوفاق أو حتى للإجماع. ذاك أن الخلافات تفاقمت وأحدثت شرخاً خطيراً في المجتمع ولذا فهي استوجبت هذا الحوار. وفي لقاءات سابقة أمكن التوصل إلى جملة قرارات تتعلق بترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، مثلاً، أو بالتعامل مع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وداخلها، أو بالمحكمة ذات الطابع الدولي المختصة بالنظر في الاغتيالات السياسية خصوصاً منذ اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري... لكن هذه القرارات، المحسومة على ما يقولون، لم تبدأ محسومة أبداً، بل إن وجهات النظر الفئوية والمصلحية والانتهازية ظلت أعلى صوتاً من "التوافق" المفترض أنه حصل. فالمواقف المستبقة ظلت كما هي، قبل الحوار وبعده، ويمكن أن تقترب مما اتفق عليه أو تبتعد حسب الظروف ووفقاً للإيحاءات الخارجية. بعد "وفاق الدوحة" 2008. الذي أعاد "الدولة" إلى نصابها الشكلي، قيل إن لجنة الحوار الوطني ستستكمل البحث في الخلافات لضمان عدم تفجرها ثانية، وقيل أيضاً إن الحوار كان "أنجز" معظم المهمة، ولم يبقَ على جدول أعمال سوى بند واحد هو "الاستراتيجية الدفاعية" وفقاً للتسمية التي يفضلها البعض، أو "السلاح غير الشرعي" و"سلاح المقاومة" وفقاً للبعض الآخر. بعد عام ونصف العام على الحوار المتقطع أصبح مفهوماً أنه لن يستطيع التوصل إلى وفاق، وأن فائدته الوحيدة تكمن في جمع أطرافه إلى طاولة واحدة. لكن أخطر دلالاته أن القرار فيه لا يمكن أن يكون لبنانيّاً داخليّاً، مثلما أن الإشكال الذي نشأ لم يكن داخليّاً في الأساس. الموضوع كثير التعقيدات، لكن لا بأس في استجلاء النقاط الواضحة التي يمكن أن تشكل نوعاً من "الثوابت". وأولها أن اللبنانيين لا يمكن أن يكونوا ضد المقاومة وسلاحها ولابد أنهم يحترمون تضحياتها وإنجازاتها ومن أهمها تحرير الجنوب المحتل عام 2000. لكن اللبنانيين اختلفوا على إدارة ما بعد هذا التحرير وعلى مجالات استثماره في التنمية وإنهاض الاقتصاد والشروع في تطوير الدولة ومؤسساتها بعد التدهور الكارثي الذي أصابها خلال الحرب الأهلية بدءاً من عام 1975. ومن هنا فإن قرار استمرار المقاومة بعد التحرير بدا في نظر معظم اللبنانيين مشروعاً غير متناسب مع قدرات البلد لأنه كرّس لبنان كدولة وحيدة محاربة ومنخرطة في الصراع العربي- الإسرائيلي، وجعله خارج الخط العربي العام المتجه نحو السلام. وفي المرحلة السابقة عندما كانت الحرب خياراً عربيّاً كان لبنان مستثنىً، تحديداً بسبب قدراته المتواضعة. هذا الخلاف على الدور الذي فرض فرضاً على لبنان لاستخدامه كساحة لتنفيس التوترات، هو ما أثار ويثير الجدل حول "سلاح المقاومة". وبمقدار ما ساهمت القوى الإقليمية (سوريا وإيران) في تثبيت هذا الدور، فإن تدخلات القوى الغربية (الولايات المتحدة وأوروبا) شحذت العناد والتمسك بهذا الدور لأنها اهتمت فقط بمصلحة إسرائيل ولم تعر لبنان وشعبه أي اعتبار. وبمعزل عن إرادة الشعب اللبناني فإن اللاعبين السياسيين الداخليين لم يجدوا سبيلاً إلى التمايز عن الاصطفاف المطلوب الذي بات يعبر عنه بمعادلة "إما مع المقاومة وإما ضدها". وإذ يبدو "الضد" جحوداً لا يقبله الضمير، فإن "المع" تعني أيضاً القبول بتبعاتها الداخلية والخارجية المرفوضة. طالما أنه لا يمكن اختيار المستحيل فقد ابتكر محركو خيوط الدمى السياسية اللبنانية أخيراً صيغة وضع الخلاف على السلاح "خارج التداول" كأفضل وسيلة لحلّه من دون حلّه. لكنه خلاف لا يتعلق بالسلاح فقط وإنما بتغيير طبيعة النظام.