أثارت الأفكار الواردة في كتاب داروين "أصل الأنواع" وكتبه الأخرى زوبعة كبرى في أوروبا والولايات المتحدة وكل البلدان المسيحية. فقد بدت نظرية التطور، بالتفاصيل التي عرضتها هذه الكتب وبلورتها، مناقضة كل التناقض لقصة الخلق الواردة في "الكتاب المقدس"، خلق مُختلف الكائنات والحيوانات وخلق الإنسان. فقد ذهبت النظرية إلى أن الكائنات كلها، بما فيها الإنسان، تطورت من "أصل أميبي" واحد، ثم تشعبت وتفرّعت، وأن أصل الإنسان وبقية الثدييات وغير الثدييات واحد. وأن عملية التطور استغرقت ملايين السنين. وأن الكثير من الحيوانات قد ظهرت ثم اختفت كالديناصور، الذي اختفى من وجه البسيطة قبل ظهور الإنسان بأكثر من خمسين مليون سنة تصور فقط هذا العدد من الأعوام! وقد صدمت هذه التفاصيل وغيرها، إلى جانب القول بأن الوجود الطبيعي برمته قائم على الصراع وبقاء الأنسب أو الأقوى أو الأصلح في بيئته، أركان الإيمان الديني ورواية "الكتاب المقدس" حول الخلق وظهور الإنسان. وتفاوت استقبال الأوساط الدينية المسيحية لكتاب "أصل الأنواع"، الذي ظهر عام 1859، لنحو 15 سنة، بين القبول الحذر من البعض والرفض الأشد اتساعاً والإدانة من قبل جمهور واسع. ومع عام 1870 تعمق النزاع، ووقع الانقسام في موقف البروتستانت بين مجموعة تدين نظريات داروين وتكفّرها وتعتبرها الحاداً صريحاً ATHEISM، وأخرى تعترف بالتطور كحقيقة بيولوجية راسخة وتحاول أن توفق بينها وبين الإيمان الديني. فمن جانب أفرز العداء للداروينية موقفاً "أصولياً" يحاول التمسك الحرفي بنصوص الكتاب المقدس في قصة الخلق وفي وجه أية نظريات علمية تصطدم بهذه النصوص ومن جانب ثان، اتجه رجال دين ولاهوتيون آخرون مثل "جورج هاريس" و"ليمان أبوت" وفلاسفة دينيون مثل "جون فسك" ، إلى اعتبار "التطور" نهج الخالق في بناء الحياة. كما تقبل هؤلاء النظرية التطويرية في فهم التاريخ. أما الكنيسة الكاثوليكية فتجنبت الاصطدام بالنظرية أو تأييدها، محتفظة بحق الكنيسة في تفسير النصوص وبحقها في تحديد طبيعة الإنسان. ويقول باحث في الأديان أن أحد علماء البيولوجيا الكاثوليك ويدعى "ميفارت"، قد دافع عن نظرية التطور في البيولوجيا في كتابه "تكوين الأجناس" الصادر عام 1871. ولاشك أن مرونة الكنيسة الكاثوليكية إزاء "نظرية التطور" وعدم إسراعها إلى تحريمها مما يلفت النظر! وبخاصة إذا أخذنا بالاعتبار موقف الكنيسة الكاثوليكية من بعض العلماء السابقين مثل "جيوردانو برونو" و"غاليليو" و"كوبرنيكوس". "فالفكرة المنطوية عليها الداروينية والقائلة بأن الإنسان ليس له روح أو نَفْس، بل إنه تحدّر من "أميبيا" أو كائن أُحادي الخلية، وارتقى من خلال سلسلة من حيوانات أخرى، كانت فكرة لا تبعث أبداً على الارتياح". وكذلك أيضاً، يضيف "سترومبرج" حال الفكرة الموحي بأن الحياة هي صراع مجرد من كل قيمة أخلاقية، وأن الطبيعة دامية الناب والمخلب، ومملوءة بالألم والموت، والتضحية بما لا يعد ولا يحصى من الأفراد على مذبح النوع. زد على ذلك إيحاء داروين أن الكون لا يزيد عن كونه صدفة وخطأ: (تاريخ الفكر الأوروبي، ص 416) ورجعتُ إلى موسوعتين معتمدتين من مراجع الكنيسة الكاثوليكية صدرت الأولى في 15 مجلداً عام 1909، والثانية واسمها The Modern Cotholic Encyclopedia، صادرة في إيرلندة عام 1994، لأرى ما تقولانه في نظرية التطور. تفرد الأولى The Catholic Encyclopedia في مجلدها الخامس، 17 صفحة لشرح النظرية، وموقف الكنيسة منها. وقد كتب القسمين أكاديميان أحدهما مقيم في لوكسمبورج والثاني في هولندا! ويقول البروفسور "مكرمان: في نهاية الجانب البيولوجي من البحث ضمن الاستنتاجات أن أصل الحياة لا يزال مجهولاً للعلم وكذلك أصول الانقسامات العضوية، ولا دليل على ارتقاء الأشكال العضوية، ولا وجود لما يدعم القول بالأصل الحيواني للإنسان. معظم أنماط الأنواع والأجناس لم تظهر أو تُخلق حتماً هكذا، بل ظهرت نتيجة تطورات تدريجية أو قفزات. ولكن لا دليل على وقوع التحولات خارج إطار ما هو مشاهد في الأنواع البشرية، وأضاف د. "مكرمان" إننا لا نعرف إلا القليل من علل ودوافع التطور، ولا يمكن نكران أثر البيئة والوسط الطبيعي، ولكننا لا نستطيع حتى الآن أن نحدِّد طبيعة هذا التأثير. ومن هنا، فستبقى آراء "ماندل" في الوراثة، ونظرية "داروين" في الانتخاب الطبيعي مادة أساسية للنظريات التطورية في المستقبل. أما عن موقف الكاثوليكية من نظرية التطور، فقد فصّله د. واسمان كالآتي: لدى الحديث عن "نظرية التطور" ينبغي علينا أن ننتبه للكلمات المستخدمة في الاصطلاح بين "نظرية التطور" كفرضية علمية وكتأمل فلسفي أو تخمين، وبين نظرية التطور كأمر قائم على مبادئ إلهية أو على أسس مادية إلحادية، وبين نظرية التطور والداروينية، وأخيراً، بين رؤية نظرية التطور إلى نشوء النباتات والحيوانات ونشوء وارتقاء الإنسان. وواضح أن نظرية التطور، كفرضية علمية، لا تتحدث عن الكائنات والمخلوقات التي نراها اليوم على وجه البسيطة، بل عن تلك التي ظهرت وعاشت قبل عصور ودهور. فهي لا تتناول هذه الحيوانات والنباتات كما خلقها الله سبحانه، بل كما نرى الآن النتائج النهائية لتطور أنواع كانت تعيش في العصور الجيولوجية. ومن هنا، فهذه النظرية، ضمن هذه الحدود، لا تشير إلى أصل ظهور الحياة، بل ظروف استمرار وتطور وتدرج وتشعب الكائنات. والآن، ما مدى اعتماد نظرية التطور على الحقائق المشاهدة؟ فالمفهوم أنها في الواقع مجرد فرضية علمية. فلا دليل على ارتقاء كل النباتات والحيوانات عن كائن ابتدائي واحد. ومن هنا، فمعظم علماء الأحياء يميلون باتجاه تطور متعدد الأصول، أي Polygenetic بدلاً عن Monogenetic. ولا يخالف هذا الجانب من النظرية "الكتاب المقدس"، الذي لا يحدد الشكل الأول الذي ظهرت به الكائنات الحية. ومن ناحية الحكمة والتأمل الفلسفي والنظرة الكونية، فإن الأرض برمتها بما عليها من مخلوقات إن هي إلا جزء بسيط جداً من الكون. وتنص نظرية التطور بهذا الخصوص، أي في مجال المفهوم الفلسفي، على تناغم تطور الكون في إطار القوانين الطبيعية. وهذا لا يتعارض مع النظرة المسيحية للعالم، حيث أوجد الخالق الكون ثم ترك العالم يتطور بموجب ما خلق له من قوانين. ونظرية التطور نفسها، كما بينا، يقول "واسمان"، تنقسم إلى مدرسة مؤمنة بالخالق الأول للحياة وأخرى مادية ملحدة، تنفي وجود أي خالق. وهذه الأخيرة لا يمكن المواءمة بينها والنظرة المسيحية. وبخاصة وأن الإيمان المسيحي يحتم التدخل الإلهي لخلق الروح، وهو ما تنفيه التطورية الملحدة. آخر النقاط التي يفصلها "واسمان" هي التأكيد على الفصل بين "الداروينية" و"نظرية التطور". فهذه الأخيرة ظهرت قبل داروين على يد "لامارك" مثلاً عام 1809 و"سنت هيلاري". وقد تولى "داروين" عام 1859 اعطاءها شكلاً جديداً من خلال تفسير أصل الأنواع وتطورها بالانتخاب الطبيعي. وبموجب هذا التفسير، الذي هو جوهر نظرية داروين، فإن التناسل والتكاثر بين الكائنات يعتمد على الصراع من أجل البقاء ودوام حياة وسلالة الكائن الأنسب. هذا التفسير يفتقد إلى الأساس العلمي، يضيف "واسمان": هذه الناحية من نظرية داروين، أي الصراع وبقاء الأقوى أو الأصلح أو الأنسب، هي التي يركز عليها "هاكل" وأتباعه في المدرسة المادية، وينظرون من خلالها إلى تطور الوجود برمته وهو ما لا يمكن للنظرة المسيحية أن تتقبله. وأخيراً، هناك تفسيرات النظرية لتطور وظهور الإنسان من خلال الصراع وبقاء الأنسب، وهذه كذلك لا يمكن القبول بها وإن كان من الممكن القبول باستخدام التحليل التطويري لتفسير ظهور "الجسم البشري"، كما نرى في بعض إشارات القديس أوغسطين. أما روح الإنسان فلابد أن نعزو خلقها إلى الله، إذ لا يمكن أن تكون قد انحدرت من الروح الحيوانية.