في بداية شهر مارس، نشرت صحيفة «كورييري ديلا سيرا»، إحدى أهم الصحف اليومية الإيطالية، مقالاً بقلم كاتب العمود إرنستو غالي ديلا لوجيا، وهو رجل شيوعي، ينتقد فيه حزب «شعب الحرية» الحاكم في إيطاليا. وفور صدور هذا المقال، قام ثلاثة منسقين قوميين في حزب «شعب الحرية»، هم ساندرو بوندري وإيغناسيو لا روسا ودنيس فرديني، بكتابة رسالة مشتركة في الصحيفة نفسها ردّوا فيها على ما جاء في المقال. لن أخوض في تفاصيل هذا الموضوع، فيملك كتّاب الافتتاحيات الحرية في انتقاد الأحزاب السياسية، كما يحقّ للسياسيين الردّ على انتقادات مماثلة. إلا أنّ ما يهمّني على هذا الصعيد هو الطريقة التي انتقى بها ممثلو حزب «شعب الحرية» كلماتهم. فقد كتبوا ما يلي: «تبدو بعض الانتقادات... كتلك التي وردت في مقال نُشر على الصفحة الأولى لعدد صحيفة (كورييري) الصادر البارحة، عقيمة لأنها لا تنقل الحقائق بتجرّد، بل تنمّ عن تفكير مرجعي ذاتي بحسب تعبير بعض المفكّرين». كما شدّدت الرسالة على أن الانتقادات التي أطلقها ديلا لوجيا، لا تخّوله أن يبدو بمثابة «مفكر». وتابع بوندي ولاروسا وفرديني القول إن الشخص الذي يوجّه انتقادات مماثلة يتصرف «وكأن الوقائع غير موجودة ويعيش في بيئة عقيمة وحيداً برفقة كتبه المفضلة وأفكاره الشخصية». إن كان مصطلح مفكّر يحيل إلى الشخص الذي يستخدم عقله عوضاً عن يديه، فليس المفكرون فلاسفة وصحافيين فحسب، بل مصرفيون وعملاء تأمين، وبالطبع سياسيون مثل بوندي الذي يكتب الشعر إلى جانب مواهبه الأخرى. والجدير بالذكر أيضاً أنّ زميليه لاروسا وفرديني لا يكسبان لقمة عيشهما من حرث الأرض. وإن كان المفكر شخصاً يستخدم عقله ويستعمله لتأدية أنشطة انتقادية (بغض النظر عمّا ينتقد وبأي طريقة) فلا بدّ أن الموقّعين الثلاثة على الرسالة يعتبرون أنفسهم بمثابة مفكرين. وفي الواقع، فإن كلمة مفكر تحمل معاني تاريخية محددة. فقد برزت النظرة العصرية السلبية إلى المفكّر في قضية دريفوس التي هزّت فرنسا في العام 1890، بعد اتهام الفرنسي اليهودي ألفريد دريفوس بالخيانة ظلماً. وقامت مجموعة مؤلفة من الكتّاب والفنانين والعلماء، بمن فيهم مارسيل بروست وأناتول فرانس وجورج سوريل وكلود مونيه وإميل دوركهايم وجول رينار، إضافة إلى إميل زولا الذي كتب رسالة مؤثرة بعنوان «إني أتهم» لتبرئة دريفوس، بالتعبير عن قناعتها بأن هذا الرجل كان ضحية مؤامرة معادية للسامية، كما طالبت بإعادة النظر في محاكمته. ووصف رئيس الوزراء الفرنسي الذي عيّن في ما بعد، جورج كليمنصو، هؤلاء الرجال بالمفكّرين، إلا أن بعض الأشخاص الرجعيين، مثل موريس باريس وفرديناند برونوتيير، قاموا باستخدام هذا التوصيف بطريقة ازدرائية. فقد استعمل هذان الرجلان المصطلح للدلالة على الأشخاص الذين يحشرون أنوفهم في مسائل لا تدخل ضمن اختصاصهم مثل التجسس الدولي والعدالة العسكرية، عوضاً عن شغل أنفسهم بالشعر والعلوم والميادين الأخرى (أي عدم التدخل في شؤون الغير). ويعتبر المفكّر بالنسبة إلى معارضي قضية دريفوس الشخص الذي يعيش وسط كتبه وأفكاره المجردة، أي الشخص الذي لا يتصل بالواقع والذي يجب أن يلزم الصمت. ويظهر هذا الاستخدام السلبي للمصطلح في الجدالات التي برزت في تلك الفترة. وقد تمّ استعماله بالطريقة نفسها في رسالة بوندي ولاروسا وفرديني. لن أفترض أنّ المعدّين الثلاثة للرسالة بصفتهم مفكّرين بالطبع (إلى حدّ أنهم يتباهون بمعرفتهم بمصطلح «مرجعية ذاتية»)، يعلمون بالأحداث التي جرت منذ 110 سنين. بل أنا أظنّ أن بوندي وزميليه يملكون ذاكرة جينية عن العادات الجدلية القديمة كتلك التي تصف أي شخص يملك أفكاراً مختلفة عن أفكارهم بالمفكّر الدنيء. أذكر أن اسقفاً سيئ الحظ يدعى سالفاتوري بابالاردو، كان رئيس أساقفة باليرمو عام 1992 وصف عصابة المافيا بـ«معبد الشيطان»، الأمر الذي ألحق إهانة بالمجتمع اليهودي في إيطاليا. واعتذر رجل الدين بالقول إنه استخدم الكلمة «بمعناها القديم، أي مكان للتجمع». إلا أن معنى العبارة السلبي بقي، ما دفع إلى استخدامها في الخطابات المعادية للسامية التي ظهرت في زمن قضية دريفوس. وأخيراً، إن كانت العبارة قد حملت على مرّ الأيام جذور معناها السلبي، فلن يخلّف استخدامها وقعاً إيجابياً حتى في الخطابات حسنة النية.