سيظل حديثنا عن أسئلة النهضة ومشكلاتها متصلاً، لأنها القضية الكبرى التي ينبغي أن ينشغل بها العقل العربي في العقد القادم على الأقل، حتى تنجلي ظلمات الرؤى المتطرفة والرجعية، التي سادت مناقشات المجتمعات العربية المعاصرة. إن الجدل حول أسئلة النهضة لم يتوقف منذ بداية النهضة العربية الأولى، عقب الاحتكاك الغربي بالعالم العربي والإسلامي بعد الحملة الفرنسية ضد مصر بقيادة نابليون. ولم تكن السجالات بين التيارات الإيديولوجية العربية الكبرى كالتيار الإسلامي والتيار الليبرالي والاشتراكي مجرد حوارات تدور داخل آفاق فكرية مغلقة بين المثقفين العرب، ولكنها انتقلت من النظرية إلى التطبيق. ذلك أن نخبة من المثقفين العرب تولوا الحكم -في ظروف سياسية معقدة متنوعة- في بلاد عربية متعددة، مثل مصر على وجه الخصوص والعراق وتونس والمغرب، أي البلاد الرئيسية في المشرق والمغرب العربي. غير أن أكبر عقبة واجهت الممارسة الليبرالية في هذه البلاد أنها تمت في وجود الاحتلال الإنجليزي في مصر وفي العراق، وفي سياق نظم الوصاية والانتداب في لبنان وسوريا، وتمت ممارسات حزبية متعددة في ظل الاحتلال في كل من تونس والمغرب. غير أن واقعة الممارسة الديمقراطية في ظل الاحتلال لم تكن هي السمة الرئيسية لهذه الحقبة الليبرالية المحاصرة في العالم العربي، ونعني حقبة العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات، ولكننا لابد أن نشير إلى سمة أخرى فارقة هي أن الصراع الإيديولوجي الذي دار بين التيار الإسلامي والليبرالي والاشتراكي في عصر النهضة الأولى والذي حلله المؤرخ المغربي عبد الله العروي" في كتابه الشهير "الإيديولوجية العربية المعاصرة"، حسم تاريخياً لحساب التيار الليبرالي. فقد أقصي كل من التيار الإسلامي والاشتراكي، وانفرد الليبراليون بالساحة، وتحتاج تجربتهم إلى تحليل نقدي متعمق. غير الانقطاع التاريخي في تيار الفكر النهضوي سواء على مستوى الجدال النظري أو الممارسة السياسية الواقعية وقع في بداية الخمسينيات أو قبلها بقليل، حين وقع انقلاب حسني الزعيم في سوريا عام 1949، وتولى العسكريون الحكم بعد أن نحوا طبقة السياسيين المحترفين، وخصوصاً بعد أن قام في مصر الانقلاب العسكري الذي دبره "الضباط الأحرار" بقيادة عبدالناصر، الذي سرعان ما تحول إلى ثورة بعد أن أعلن هؤلاء عن مشروعهم الشامل للتغيير الاجتماعي الجذري. وتمت محاولات بعثية لتقليد التجربة الناصرية في كل من سوريا والعراق. ومنذ هذه اللحظة التاريخية توقف الحديث عن النهضة وبدأ الحديث عن التنمية! ومرد ذلك إلى نهاية الحرب العالمية الثانية وسعي الولايات المتحدة الأميركية في محاولة مبكرة منها لخلق عالم دولي جديد تهيمن عليه ولذلك عمدت إلى نشر إيديولوجية التنمية. وبدأت القصة بمشروع "مارشال" لإعمار أوروبا بعد الخراب الذي أحدثته الحرب العالمية الثانية، وامتد السعي إلى العالم الثالث ومن بينها بلاد العالم العربي، حتى يتم تطورها تحت إشرافها غير المباشر من خلال الهيمنة على سياسات وقرارات المؤسسات العالمية الكبرى. وأهمها على الإطلاق البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، اللذين قاما بتمويل قروض ومنح التنمية بشروط سياسية غير معلنة. ومن هنا نلاحظ أن مصطلح النهضة منذ الخمسينيات اختفى من الخطاب السياسي، وحل محله مصطلح التنمية بتنوعاته المختلفة. والسؤال هنا ما الذي يدعو الآن -من الناحية السياسية والإيديولوجية- للعودة لاستخدام مفهوم النهضة من جديد؟ بدأ هذا في الإنتاج الفكري للمثقفين العرب منذ هزيمة يونيو 1967 وربما كان ذلك تعبيراً بليغاً عن فشل التنمية بمفهومها الاقتصادي وحيد البعد، والحاجة إلى مفهوم أشمل يضم الجوانب السياسية والاقتصادية والمعرفية والثقافية والاجتماعية في إطار واحد، ولم يكن هناك أفضل من مفهوم النهضة، لأنه بحمولاته التاريخية الكبرى يحمل آثار فكر المفكرين النهضويين العرب الأول، وفي مقدمتهم رفاعة الطهطاوي و محمد عبده وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى في مصر وأضرابهم في البلاد العربية الأخرى. ومن هنا الدلالة الكبرى لإطلاق "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت لكتاب "المشروع النهضوي العربي" في هذه المرحلة التاريخية بالذات التي يحتاج فيها العقل العربي إلى عملية تجديد كبرى تقوم على الاستيعاب النقدي لتجارب النهضة العربية الأولى، والفهم العميق لتحولات العالم المعاصر في الوقت نفسه. وفي ضوء الاستيعاب النقدي لتجربة النهضة العربية الأولى علينا -بعيداً عن زحام التفاصيل وتعقد الوقائع التاريخية واختلاف مساراتها في المشرق والمغرب- أن نركز على التناقض الرئيسي الذي دار بين تيارين عريضين في الفكر النهضوي. التيار الأول يدعو إلى الدخول في عالم الحداثة الأوروبية بقوة وبلا أي تحفظ، والثاني يدعو إلى الخروج من هذا العالم قبل الدخول أصلاً فيه! وأصل الخلاف يتمثل في الأسس الحاكمة للحداثة الغربية ذاتها التي يمكن على سبيل الإيجاز إجمالها في ثلاثة أسس رئيسية هي الفردية، والعقلانية والاعتماد على العلم والتكنولوجيا، وتبني المنهج الوضعي في بحث الظواهر الاجتماعية والثقافية. وأخطر هذه الأسس جميعاً هو مبدأ العقلانية الذي كان شعاره المدوي أن "العقل وليس النص الديني هو محك الحكم على الأشياء"! والمقصود هنا -في سياق التطور الأوروبي- النص الديني المسيحي، بعد أن قطعت أوروبا -عن طريق ثورتها الثقافية- العلاقة الوثيقة التي كانت تربط الدين بالسياسة، وبعد أن نسفت حكم الكنيسة الاستبدادي الذي جمد التطور الأوروبي قروناً طويلة. وهنا بدأت الإشكالية لدينا! هل نطبق هذا المبدأ الحاكم ونعني على وجه التحديد أن "العقل هو محك الحكم على الأشياء". وماذا نفعل مع النص الإسلامي المتين، صاحب السلطة المعنوية الكبرى على عقول النخبة والجماهير معاً في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية؟ هنا بدأ الانشقاق الكبير الذي ما زلنا نعاني من آثاره حتى اليوم! وبعد هذه اللوحة التاريخية المعقدة التي حاولنا فيها بإيجاز تحديد التناقض الرئيسي الذي دار في فكر النهضة العربية الأولى بين الدخول إلى الحداثة أو الخروج منها قبل الدخول فيها، لابد أن نثير عديداً من الأسئلة تتعلق بشكل العلاقة بين الدين والسياسة في المشروع النهضوي العربي الجديد.. ولكن هذا موضوع آخر.