خلال العقود الثلاثة الماضية، وبالتحديد منذ يوم الأول من يناير عام 1983، الذي يعتبره الكثيرون عيد ميلاد الإنترنت، نجحت هذه الشبكة العنكبوتية في إحداث تغييرات جوهرية في الغالبية العظمى من جوانب الحياة الإنسانية في العصر الحديث إلى درجة أنه من الصعب ذكر مجال أو قطاع أو جانب في مكونات المجتمعات الحديثة، لم تترك الإنترنت أثرها فيه، وتطبع بصمتها عليه. وهو ما ينطبق إلى حد كبير على الجوانب الصحية والطبية أيضاً، التي ربما تعتبر من أكثر الجوانب تأثراً بثورة المعلومات التي خلقتها الإنترنت. ويعزى هذا التأثير إلى عدة أسباب؛ منها الانتشار الواسع في عدد المستخدمين، الذي وصل حسب بعض التقديرات إلى ملياري شخص، أو ثلث أفراد الجنس البشري. هذا بالإضافة إلى الديمقراطية المتأصلة في طبيعة الإنترنت، من حيث إمكانية المشاركة في مكوناتها، دون الحاجة لتصريح نشر، أو اعتماد وموافقة الجهات الرسمية، أو غيرها من المحاذير والقيود التي قد تحد من مشاركة العامة في (توفير المعلومة في المجالات المتخصصة). وهذه الصفة الأساسية في الإنترنت، التي تعتبر هي المحرك الرئيسي خلف انتشارها والمصدر الأساسي لجزء كبير مما تحتويه من معلومات، أصبحت في رأي البعض إحدى أهم نقاط الضعف فيها، وخصوصاً فيما يتعلق بالمعلومات الطبية والصحية. فالتدقيق والتمحيص في دقة ونوعية المعلومات الطبية والصحية التي تحتويها الإنترنت يظهر بشكل جلي أنها أبعد ما تكون عن أن تكون مصدراً موثوقاً يمكن الاعتماد عليه بكل ثقة في هذا المجال. وهو ما أكدته مرة أخرى دراسة نشرت مؤخراً في إحدى الدوريات المتخصصة في طب الأطفال (Archives of Disease in Childhood) وأجراها مجموعة من أطباء مستشفيات جامعة نوتينجهام ببريطانيا. وحسب القائمين على هذه الدراسة، إذا ما حاول المرء الحصول على معلومات عن شكوى أو مشكلة صحية تواجه طفله من خلال أحد محركات البحث الشهيرة، فلن يحصل في الغالب على معلومات دقيقة، أو حتى صحيحة. وقد توصل الباحثون إلى هذه النتيجة من خلال البحث على الإنترنت عن معلومات عن خمس قضايا صحية شائعة، مثل التوحد، والرضاعة الطبيعية، وقصروا بحثهم على المواقع الموجودة في بريطانيا وحدها. وكانت المفاجأة أن 500 موقع متخصصة في توفير المعلومات الصحية على الإنترنت وفرت من بينها 200 موقع فقط معلومات دقيقة وكافية، وهو ما يعني أن 60 في المئة من هذه المواقع المتخصصة لم تحتوِ على معلومات دقيقة أو كافية. وهذه النتيجة على فداحتها، تعتبر أفضل نسبياً من نتائج دراسة أخرى، قامت بالبحث عن نتيجة سؤال بسيط يتعلق بموضوع إصابة الأطفال بالحمى، فحصلت على الجواب السليم من ثلاثة مواقع فقط من ضمن 22 موقعاً تم البحث فيها. وبوجه عام، وضمن الدراسة الأولى بالتحديد، كانت المواقع الحكومية هي الأفضل والأدق على الإطلاق في توفير المعلومات الصحيحة والكافية. ومما يفاقم الوضع سوءاً تضارب هذه النصائح والإرشادات والمعلومات في كثير من الأحيان، مما يترك المريض في حالة من الارتباك، ويدفع به نحو الطريق الخاطئ في التعامل مع شكواه الصحية. ومثل هذا الوضع برمته، يعتبر إحدى القوى المحركة لمفهوم الصحة 2.0 (Health 2.0)، المتضمن لاحتمالات الاندماج بين الرعاية الصحية، والصحة الإلكترونية (eHealth)، والشكل الجديد المقترح لتطبيقات الإنترنت (Web 2.0)، الذي يسمح بالتفاعل بين التعاون والمشاركة المعلوماتية، وقابلية التشغيل البيني، واعتماد التصميمات المرتكزة حول المستخدم من خلال الشبكة العنكبوتية. وهو ما من شأنه أن يوسع من نطاق تطبيقات الصحة الإلكترونية بوجه عام لتشمل الطب الاتصالي أو الطب عن بُعد، وسجلات المرضى الإلكترونية، ونظم المعلومات الصحية المستهدفة للمرضى وأقربائهم، وإدارة المعلومات الصحية بوجه عام. ففي ظل أهمية المعلومة الدقيقة والكافية للطبيب والمريض في الوقت نفسه كمكون أساسي من مكونات تقديم الرعاية الصحية الجيدة، وبناء على أن الجنس البشري أصبح يعيش حاليّاً في ثورة من المعلومات، من حيث الكمية والحجم وسهولة التوفر، لا يمكن أن تنعزل نظم الرعاية الصحية عن المشاركة في خلق وتنظيم وإدارة هذه المعلومات، واستخدامها وتطبيقها في تحقيق الهدف الأساسي من الرعاية الصحية، المتمثل في وقاية أفراد المجتمع من الأمراض، وتشخيص وعلاج من يقع منهم فريسة للمرض. ومثل هذا التوجه ليس في الحقيقة اختياراً بالمعنى الكامل للكلمة، حيث فرضت التطورات التكنولوجية بالفعل على نظم الرعاية الصحية، وعلى الأفراد العاملين فيها، واقعاً لابد لهم من الاستجابة له، والتعامل معه بالشكل الذي يحقق المصلحة للمرضى. وهذا الواقع يتمثل في مئات الآلاف من المواقع التي توفر معلومات صحية، ومن الصيدليات التي تبيع الأدوية والعقاقير الطبية دون وصفة طبية، وكذلك الشركات التي تسوق منتجات لم تثبت فعاليتها وجدواها أو حتى أمنها وسلامتها للاستخدام، هذا زيادة على المختبرات التي توفر فحوصاً وتحاليل عبر البريد، دون زيارة الطبيب أو استشارة المتخصصين. وكل هذه التطورات تجعل من الصعب تجاهل الإنترنت كإحدى أهم القوى المؤثرة حاليّاً في ديناميكيات الرعاية الصحية، وفي العلاقة بين الطبيب والمريض، واستطراداً كفاءة وفعالية المؤسسات الصحية في المساهمة في تحسين صحة أفراد المجتمع. د. أكمل عبدالحكيم