حين دخل الأستاذ الجامعي غرفة دكتور الأورثوبيديا (تقويم العظام) لشكوى بسيطة، لم يخطر في باله أن بينه وبين الموت شعرة. كانت شكوى الأستاذ من ركبته، واقترح عليه جراح العظام عملية بسيطة سريعة، بفحص الركبة بالمنظار تحت التخدير العام (Arthroscopy). قال دكتور العظام: غسلت يدي ولبست القفازات، وفجأة صاح المخدر: لقد توقف قلب المريض! هرع الجميع ونسوا كل شيء إلا قلب المريض المتوقف، وعجزت كل إمكانياتهم عن إنعاشه. مات الأستاذ، لكن كيف حدث ذلك؟ مثل هذه الحوادث تحدث يومياً في العالم، وحين خرج الرئيس البولندي في 10 أبريل 2010 مع زوجته و95 من الشخصيات المهمة لإحياء الذكرى السبعين لمذبحة غابات "كاتين" التي قام فيها ستالين بإعدام آلاف الضباط البولنديين... لم يخطر في باله أنه سيلحق بالأموات السابقين مع الطوابير الجديدة من الأموات! لا يمكن ممارسة الطب بدون مضاعفات قلت أم كثرت، والطبيب أو الجراح الذي يمارس مهنته ولم يمت معه مريض أو يتعرض لمضاعفات، هو طبيب لا يتصرف ولا يمارس. لذا كان الطب ثلاثا؛ ممارسة وفنا وغطاء قانونيا، مثل أي جيش عنده القوات البرية والبحرية والجوية. نعم أنا شخصيا مات معي مرضى ونجى الأكثر وعاشوا خلال خبرتي الممتدة 38 سنة في الجراحة أجريت خلالها آلاف العمليات أو شاركت في إجرائها. وما زلت أذكر المريض ميلتسارسكي الذي أجريت له عملية زرع شريان صناعي في مدينة بانيه في ألمانيا، فمات ولم يقم. وأذكر مريضة الدوالي التي كنت أساعد فيها الدكتور الألماني "كيزه"، وماتت على الطاولة. كما أذكر من سقطت عليه المئذنة، بينما كان القوم يعمرون المسجد الجديد على أنقاض القديم، فطلبوني لتداركه وكان ينزف فلم أستطع انتشاله من قبضة عزرائيل. كذلك أذكر المريض الذي ضرب بالرصاص في حادثة شرف، فحضرت إلى بيته، لكنه مات بمجرد فتح البطن بالمشرط. أما الناس الذين أنقذتهم فأكثر من الإحصاء والدفاتر، وفي الشهر الماضي أنقذت حياة سبعة أشخاص على الأقل؛ أثيوبي طعنه صديقه بخنجر في الخاصرة، وسعودي ضربه أخوه بسكين في الرقبة، وآخر تهاوش مع زميله فحطم ذراعه وقطع الشرايين، وهندي سقطت على ذراعه حاوية فلم يبق من الذراع سوى شريحة جلد تتدلى، وآخر في حادث سيارة تهشم فيها الساق والركبة، فاستطعنا خلال سبع ساعات إصلاح شريان الركبة وتثبيت الكسر، وسوداني دهمته سيارة وهو في الرصيف فكسر طرف وانخلع الثاني مع هرس الشريان، وباكستاني عامل يستخدم مسدس الجدران؛ فارتد عليه المسمار الغليظ فثقب شريان الفخذ. والحاصل أن أعظم الجراحين مات معهم أحب الناس، كما ماتت زوجة الجراح العالمي دبغي بيده وهو يجري لها الجراحة، وأذكر كيف انثقب أبهر البطن في عملية ديسك في الظهر لرئيس قسم الجراحة في مشفى الكنائس التسع في جنوب ألمانيا، وكان موصى عليه جداً فمات بيد أبرع الجراحين. وفيما أرعبتني مؤخراً توصيات اجتماع عربي برفع مستوى الأخطاء الطبية إلى الجريمة الجنائية، فإن الرافعة القانونية التي رأيتها في المانيا عادلة ومريحة لكل الأطراف، بين رحمة الطبيب وثقة المريض. والسماء رفعها بالعدل ووضع الميزان... فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ Summary محمود