تزداد المدن العربية، في إجمالها وعمومها، تعثراً واضطراباً، فتزايدُ السكان فيها بوتائر متسارعة وتعاظم الأزمات المتناثرة هنا وهناك على نحو متسارع، ومظاهر الفقر والثراء التي تفرض نفسها بقوة وبصور همجية في أحيائها السكنية الرثة والأخرى الفارهة، إضافة إلى فوضى المرور العارمة والمتجلية بسيارات مصنوعة خصوصاً لأصحابها مع وسائل نقل تملأ الشوارع والطرقات بضجيجها...كل ذلك يمثل مشهداً أخطبوطياً يشرف على "تنظيمه" غالباً رجال اقترنت عقولهم -في كثير من تجلياتها "المرورية"- بالفوضى والتقصير. وبين هذا وذاك، تواجهك فئات من العاطلين عن العمل تملأ الساحات والأزقة والشوارع "الخلفية" لإيجاد نمط من "العمل"، الذي قد يسدّ إحدى حاجاتهم الأولية. ومن أولئك تتكون كتل متعاظمة من الفقراء والمُغتربين المتحدرين من المدينة ومن الريف، ليشكلوا حقاً مجموعات من المهمشين الذين غالباً ما يفصحون عن السمات التالية أو ما يقترب منها: إنهم يندرجون في إطار المهمشين، ولكنهم يحملون خصائص مختلفة في التحدّر الجِهوي الجغرافي (من المدينة في أحيائها الأشد فقراً ومن الريف القريب والآخر البعيد - مناطق نائية). وثمة مصطلح ذو أهمية خاصة على هذا الصعيد، وهو السكن العشوائي أو البناء العشوائي، بل أصبح من المألوف أن نتحدث عن "مدن عشوائية". ففي هذه المناطق لا يوجد شيء في حالة نظامية عمرانياً واجتماعياً وصحياً وأخلاقياً وغيره، فكل شيء محتمل إذا اقترن بـ"رشوة" من نمط ما، ولا شيء محتمل، إذا غابت الرشوة. ومن ثم، راحت تتكون مدن صفيح عربية لها نُظم عيشها الخاصة، بل منها ما يمتلك قوانين ناظمة رادعة أقرب ما تكون "مناطق منغلقة" تشارك في ضبطها وإدارتها مجموعات من سكانها، وقسم من هؤلاء قد يتحولون إلى مافيات متحالفة مع أطراف من المدينة وضد فقرائها. والأمر هذا يزداد وطأة على سكانه الذين في حالات كثيرة لا يعرفون الكهرباء والماء النظاميتين. والسؤال السوسيولوجي والتاريخي الذي يطرح نفسه ها هنا، هو التالي: ما هي المرجعيات الحاسمة، التي كمنت وراء ظهور تلك المدن أو البؤر المدينية؟ في العموم التاريخي، نشأت المدينة العربية خارج الحقل الصناعي وبعيداً عنه. وربما يصح القول بأنها -في أصولها- مثلت امتدادات عسكرية وتجارية. وإذا كانت قد تكونت إرهاصات مدن متقدمة احتضنت عدداً من الصناعات، إلا أنها لم تتحول إلى مراكز صناعية متقدمة بحيثيات ثقافية وعلمية استراتيجية تقودها طبقة اجتماعية صناعية بآفاق مفتوحة ومتقدمة، كما حدث مثلاً مع المدن بغداد والكوفة ودمشق. فقد افتُقدت طبقة صناعية مدينية مستقلة، شيئاً فشيئاً، عن الاقتصاد الخراجي والتنظيم السياسي الإداري الخلافي. تلك كانت ملاحظات تأتي في سياق التهديد بمخاطر جديدة للمدن العربية في سياق كوارث الاحتباس الحراري المتعاظم من طرف، وغياب شبه كلي للاهتمام بذلك من قِبل النُظم العربية. رغم بعض التحذير الإعلامي العربي الطارئ.