مرة أخرى تجد واشنطن نفسها متورطة في غابة متشابكة من السياسات المعادية، والمصالح الوطنية المتعارضة، والطموحات الشخصية لرئيس أجنبي كانت تعتمد عليه من أجل خدمة مصالحها القومية. ويحدث ذلك هذه المرة تحديداً في أفغانستان، البلد الأخير فيما يمكن أن يطلق عليه -ويا للحسرة- نهاية المغامرات العسكرية الأميركية شبه الإمبراطورية. ولا حاجة للتذكير بأن أفغانستان دولة تحول إليها الولايات المتحدة في الوقت الراهن، وبتكلفة باهظة، وجهد خارق، الجزء الأكبر من عدتها الحربية المقاتلة واللوجستية، التي كانت قد حشدتها على امتداد السنوات السبع الماضية في العراق. ويحدث هذا تماماً في اللحظة نفسها، التي يتعرض فيها الموقف في العراق لخطر التراجع والانقسام. فالمفاوضات التي جرت لتشكيل الحكومة الجديدة في العراق، ترافقت لعدة أسابيع، مع تفجيرات، وهجمات انتحارية ذات طبيعة سياسية لاتخفى على الأعين، وتعني ضمناً إمكانية استئناف العنف الطائفي في ذلك البلد، في نهاية المطاف. وقد حرصت بعض الشخصيات الشيعية، بشكل خاص، على إجراء محادثات في إيران بشأن تشكيل الحكومة الجديدة، التي ستكون حتماً تحت سيطرة الشيعة، في نظر المراقبين. ومن المعروف أن العراق تحت حكم ديكتاتوره السابق صدام، و"حزب البعث" الذي كان يقوده، قد تعرض للغزو من قبل الولايات المتحدة، حيث كان يتم النظر إليه على أنه يمثل تهديدا ًكبيراً لأميركا وأمنها، ولوجود إسرائيل. وفكرة أن الغزو سيؤدي لتحويل العراق إلى مجال واسع لنفوذ إيران هي آخر ما كان ممكناً أن يرد على بال من خططوا لذلك الغزو. كما أنه ليس من الواضح الآن ما الذي سيحدث للقواعد العسكرية الأميركية الضخمة في العراق، والالتزامات "الدائمة" للقوات الأميركية في ذلك البلد، والتي تم التفاوض حولها مع المالكي، فيما عرف بـ"اتفاقية أوضاع القوات". وكل هذا حدث مرات من قبل، تقريباً في كل تدخل عسكري كبير أقدمت عليه الولايات المتحدة منذ الحرب الكورية، التي لم تفز بها كما تدعي، بل أبقتها معلقة لما يزيد عن نصف قرن. وحدث الشيء ذاته أيضاً في فيتنام وكمبوديا، اللتين تمت الإطاحة بقيادتيهما الوطنيتين (نجوين دييم في فيتنام ونوردوم سيهانوك في كمبوديا) بواسطة انقلابين عسكريين من تدبير الولايات المتحدة، التي نصبت محلهما جنرالين لتولي مهمة محاربة الشيوعيين ولكن الجنرالين سرعان ما هزما، وهزمت معهما المخططات الأميركية بطبيعة الحال. وحدث شيء مماثل مرات كذلك متتالية في منطقة الكاريبي، قبل ظهور فيديل كاسترو حيث كانت أميركا تعمل على تنصيب حكام طغاة لخدمة المصالح الأميركية في تلك المنطقة. وكان آخر أولئك الحكام الجنرال "مانويل نورييجا" في بنما الذي كان في وقت ما عميلاً لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي.آي.إيه". ولكن ذلك لم يمنع الولايات المتحدة من خوض حرب ضد بنما عام 1989 لطرده من السلطة، ومن ثم القبض عليه وإيداعه أحد سجون "ميامي" بتهمة النصب وتجارة المخدرات. وعودة إلى الوجع الأفغاني، في يوم الخميس الماضي قال كرزاي أمام برلمان بلاده إن الأميركيين وغيرهم من الحكومات الأوروبية، وبالتعاون مع موظفي الأمم المتحدة، هم المسؤولون عن التزوير واسع النطاق الذي حدث خلال انتخابات الرئاسة الأفغانية. والمفارقة أن مفوضية الطعون الانتخابية الأفغانية، التي تعمل تحت إشراف الأمم المتحدة، كانت قد ألغت قرابة مليون تصب لصالح كرزاي، مما حرمه من فرصة تحقيق أغلبية صريحة في التصويت الذي جرى العام الماضي. والحال أن الهجوم الذي شنه كرزاي على حلفائه الغربيين، جاء بعد أربعة أيام فقط من زيارة أوباما لكابول، التي دعا خلالها حكومة كرزاي لشن حملة على الفساد المستشري فيها، والذي يعتقد على نطاق واسع أنه من ضمن الأسباب الرئيسية التي تؤجج تمرد "طالبان" في البلاد. وقد أدى التمرد الأفغاني إلى حوادث تمرد إقليمية أخرى مثل تمرد "طالبان باكستان" ضد الجيش والحكومة الباكستانيين. على سبيل المثال، في نهاية الأسبوع الماضي، شن هؤلاء هجوماً على مبنى القنصلية الأميركية في مدينة بيشاور بشمال البلاد، مما أسفر عن مصرع عدة مسؤولين أمنيين باكستانيين. وقال كرزاي في كلمة له أمام برلمان بلاده إن حلف "الناتو" بقيادة الولايات المتحدة، الذي يعمل في أفغانستان الآن قد أصبح على وشك الوصول إلى لحظة يتم فيها النظر إليه باعتباره قوة غزو، وأن ذلك سيكون سببا في تعزيز الآراء التي يتبناها كثير من الأفغان وهي أن "طالبان" تقاتل من أجل إنقاذ البلاد. وكان كرزاي قد وصف من قبل الولايات المتحدة بأن لديها مخططات ضد السيادة الأفغانية، وأنها تعد العدة لإقامة قواعد عسكرية دائمة في البلاد، واستخدام الأراضي الأفغانية لإقامة خط أنابيب يتخذ مساراً يتجنب فيه المرور في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، ويتم من خلاله نقل الطاقة المستخرجة من حقول آسيا الوسطى إلى سفن في بحر العرب. والحال أن المفاوضات المتعلقة بهذا الخط جرت، كما تشير تقارير إخبارية، قبل عام 2001 وتحديداً بعد اندحار الغزو السوفييتي لأفغانستان وتولي "طالبان" حكم البلاد. وفي ذلك الوقت تم الاتصال بـ"طالبان" من أجل إقامة هذا الخط من طرف شركة Unocal الأميركية التي تقول تلك التقارير إن الرئيس الحالي "كرزاي" كان يعمل مستشاراً لها وإن كان الأخير ينكر ذلك بقوة. والمحصلة الواضحة التي نخرج بها من كل ذلك هي أن الأمن القومي الأميركي تتم المحافظة عليه بطريقة أفضل من خلال سياسة خارجية أميركية تعمل على فك الاشتباك العسكري بين الولايات المتحدة وبين شؤون المجتمعات الأخرى، لتترك تلك المجتمعات -وقادتها- تبحث بأنفسها عن حلول لمشكلاتها. ويمكن على نحو آمن القول إن الأمة الأميركية -داخل حدودها- غير معرضة للهزيمة العسكرية أو الهزيمة أمام الإرهابيين. بيد أنه لا يمكن قول الشيء نفسه عن قواتها، أو شرفها القومي، المنخرطين في مهمات أخرى خارج الحدود. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"