لخّص طفل بإجابة بريئة سر إعجاب قطاع لا يُستهان به من الجمهور، بالداعية الراحل الشيخ متولي الشعراوي. إذ بينما كان سائراً رأى بعض الأطفال يشيرون إليه منبهين آباءهم إلى أن هذا هو الشعراوي، مما جعله يتوقف، فقال له أحد الأطفال: أنا أحبك، فسأله الشعراوي: ولماذا تحبني؟ فقال الطفل: لأنك تقول كلاماً حلواً.. فقال له: وماذا فهمت منه؟ فأجاب الطفل بفطرته البريئة: أنا لا أعرف، أنا مبسوط وخلاص! لكن الإعجاب الذي أبداه الكثيرون بالشعراوي (1911 - 1998) كانت له دوافع أعمق بكل تأكيد. فموسوعة "بيت الحكمة لأعلام العرب"، بغداد 2000، مثلاً تقول عنه إنه، "من علماء الإسلام في القرن العشرين" وتصفه بأنه "عالم مجاهد، تعلقت به قلوب الناس لعذوبة منطقه، ولقوة بيانه، وسداد رأيه، ولما يفيض به عليهم من رائع الكلام وعميق المعاني، وجميل التأويل. كان يفيض في دروسه عن وحي ملهم.. نُشرت محاضراته وخطبه من قبل الناس، ولم يكن له يد بنشرها، لصفاء قلبه وصدق نيته له أكثر من خمسين رسالة وكتابا مطبوعا في شتى ألوان الثقافة الإسلامية... ولما توفي، شارك في تشييعه أكثر من مليون مواطن في مصر". عندما زار الشيخ عبدالرحيم الشعراوي، ابن الداعية، الكويت قبل عام، أجرت معه صحيفة "الوطن" مقابلة مطولة، تحدث فيها عن تفاصيل حياة والده. وبالرغم من كل ما نرى في المكتبات من مؤلفات ومصنفات، فإن عبدالرحيم نفى صلة والده الداعية بها، قائلاً: "للعلم، فإن الشيخ الشعراوي لم يكتب أبداً ما عدا مقدمات كتب أو برقيات تعزية فقط. وعليه لم يؤلف أي كتاب، فهناك من يقومون باستغلال صور الشيخ وكلامه مع طرح آرائهم التي قد تصيب أو تخطئ، كما أن هناك من استغل صورة الشيخ بوضعها على التقويم السنوي، طبعاً دون إذن من الأسرة أو علمها. وهذه بحاجة إلى متابعة قضائية ولكنها مكلفة، وأقول بأن جميع الكتب الموجودة في الساحة زجت باسم الشعراوي زوراً وبهتاناً، وأنا على استعداد لتفويض أية مؤسسة للتحقيق وملاحقة الناشرين ومحاسبتهم قضائياً". حصل الشعراوي على الشهادة العالية من الأزهر، كلية اللغة العربية، عام 1941، وشهادة العالمية بعد سنتين، وعمل مدرساً في معهد طنطا الديني ثم الإسكندرية، وفي 1950 ذهب إلى السعودية حيث بقي فيها عشر سنوات. وفي سنة 1976 - 1987 أختير وزيراً للأوقاف وشؤون الأزهر. ويقول ابنه الشيخ عبدالرحيم بأن الشعراوي وهو يعمل بالتدريس في كلية الشريعة بمكة المكرمة، "كان يذهب إلى الحرم المكي بعد الكلية ويشاهد المشاهد الإسلامية والمقامات، مثل مقام أبي حنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل، وكان يشرح للزوار لدرجة أنه كان يستمر في الشرح بعد كل صلاة حتى الفجر، وطُلب منه أن يجلس في البقعة المصرية، وبعد ثمانية أشهر استدعاه شيخ الحرم قائلاً له إنه تم تخصيص مبلغ ثمانية آلاف ريال له مع العلم بأن راتبه هو ستمائة ريال والمبلغ هو نظير الدروس الإضافية! فرفض الشعراوي هذا المبلغ، ولكن شيخ الحرم أصرّ عليه بأخذ المبلغ وإلا لن يسمح له بالجلوس في الحرم وإعطاء الدروس. والسبب أن الأوقاف المصرية كانت ترسل رجال دين على المذاهب الأربعة، وكان هناك من يريد الاستفسار فقط من شيخ الحرم، وعليه لم يستلم المبلغ". كما صرح الشعراوي بأنه نادم على دخول الحكم والوزارة إذ يقول في مقابلة صحفية "أنا نادم على شيء واحد وهو أنني قبلت أن أدخل الحكم. نعم.. وقد سُئلت مرة: لماذا لا تكتب اسمك مسبوقاً بلقب "الوزير" كما يفعل غيرك ممن تسلموا الوزارة، فقلت لا أحب ذلك لأنها أسوأ شيء في حياتي لذلك أحبُّ أن أنساها". كان الشعراوي على اختلاف مع "الليبراليين" و"الإخوان المسلمين"والسلفيين وجماعات العنف. ودخل د. فؤاد زكريا عام 1984 في "معركة صحفية" معه، وكتب مقالاً في الصحافة الكويتية بعنوان "كبوة الشيخ"! المفكر الراحل، قال في مقال مطول:"سأكتفي بضرب أمثلة سريعة، كلها مستمدة مما سمعناه أو قرأناه للشيخ خلال شهر رمضان الأخير. فهو يعرض في أحد أحاديثه التلفزيونية رأيه في أخلاق المرأة والعلاقة بينها وبين الزي الذي ترتديه، فيقول إن المرأة يجب أن تكون مستورة حتى لا يشك الرجل في بنوّة أبنائه منها! “ وتناول زكريا مجالاً آخر من مجالات اختلافه مع الشعراوي فقال:"أما في ميدان العلم، فقد كانت للشيخ صولات وجولات، سأكتفي منها بنموذج واحد استمعنا إليه جميعاً، وهو تفسيره للآيات المتعلقة بالسماوات والأرض، والنظرية الفلكية التي عرضها علينا عرضاً مفصلاً، وحدّد فيها علاقة السماء الأولى بالثانية، والثانية بالثالثة، وهلم جرا، .. والأمر الملفت للنظر في هذا الحديث هو التأكيد على ضعف النظريات العلمية البشرية وتفاهتها.. وأن علوم الفضاء وتكنولوجيا الأقمار الاصطناعية كلها لا تساوي شيئاً.. وبسبب تكرر هذا المنحى في أحاديث وأشرطة العديد من الدعاة، لاحظ د. زكريا، "أن الهجوم على العقل البشري واتهامه بالقصور أصبح سمة من أبرز السمات المميزة للدعوات الإسلامية المعاصرة. ومن الواضح أن الكثير من الدعاة يتصورون أن الوحي الإلهي لن تصبح له مكانته في نفوس الناس إلا على حساب العقل البشري، بحيث يتعين عليهم أن يحطوا من شأن العقل حتى يؤمن الناس بمكانة الوحي. وتلك في رأيي أسوأ أساليب الدعوة، وخاصة في هذا العصر الذي أصبح فيه العلم وغيره من منجزات العقل البشري "القاصر" حقيقة لا يملك أن يتجاهلها مخلوق. ولكن أليس العقل الإنساني قاصراً محدوداً فعلاً؟ يجيب د. زكريا: "إن العقل البشري قاصر بلاشك، ونظرياته واكتشافاته كثيراً ما تتناقض أو يتضح خطؤها بمضي الزمن. ولكن عظمة هذا العقل تكمن في سعيه، برغم ضعفه هذا، إلى أن يتجاوز نفسه على الدوام، ومن المؤكد أنه نجح في ذلك إلى حد غير قليل، بدليل أنه نقلنا في قرن واحد من عصر الخيول إلى عصر الصواريخ والطائرات الأسرع من الصوت، ومن تكنولوجيا "الحمام الزاجل" إلى تكنولوجيا الترانزستور والعقل الإلكتروني والتلستار. إن عقلنا ما زال قاصراً، وما زال يقف أمام ظواهر كثيرة، كالسرطان، عاجزاً مكتوف الأيدي، ومع ذلك فإنه يحاول، وكثيراً ما ينجح ولو بعد حين". ولكن هل هذا فقط ما قاله الشعراوي مما قد يثير حفيظة خصومه؟ سنرى المزيد لاحقاً.