الحوار الاستراتيجي الأميركي- الباكستاني الذي أُجرى في واشنطن خلال الآونة الأخيرة، وزيارة أوباما غير المعلن عنها مسبقاً لأفغانستان، يمثلان مؤشراً واضحاً على تصميم الولايات المتحدة على التوصل لحل في أفغانستان، وسحب قواتها المسلحة من هناك، وعلى أن واشنطن ترى في إسلام أباد شريكاً مهما يمكن أن يساعدها في إيجاد استراتيجية خروج مشرفة من ذلك البلد المضطرب. والحوار الاستراتيجي الأميركي - الباكستاني الذي دار بأكمله حول أفغانستان، سبقه استقبال خاص للوفد الباكستاني الذي ترأسه وزير الخارجية شاه محمود قريشي وضم في عضويته قائد الجيش الجنرال "إشفاق كياني" الذي كان نجم الوفد الذي مُدت له السجادة الحمراء، بلا منازع. وقد وصل الوفد الباكستاني إلى واشنطن، وهو يحمل معه قائمة طويلة تحتوي على 56 طلبا يأتي على رأسها تزويد الجيش الباكستاني بحاجته من الأسلحة والمعدات العسكرية وعلى وجه الخصوص طائرات إف-16، وتوقيع اتفاقية نووية مدنية مماثلة لتلك التي وقعتها إدارة بوش مع الهند. من الواضح أن خطب ود باكستان من خلال الشراكة الاستراتيجية، وتقديم الوعد لها بتوقيع اتفاقية ثنائية يمثل صلب الاستراتيجية الأميركية الجديدة في التعامل مع إسلام أباد: ففي مقابل العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الباكستاني ضد "طالبان" و"القاعدة"، وافقت الإدارة الأميركية بسرعة على دفع مليار دولار قيمة مساعدات - كان قد وعدت بها من قبل، ولكن لم يكن قد تم تسليمها بعد وتتعلق بتغطية نفقات عمليات مواجهة الإرهاب في منطقة الحدود الأفغانية - الباكستانية، ولم تكتف بذلك وإنما تعهدت أيضاً بتقديم حزمة معونات مالية جديدة بقيمة 7.5 مليار دولار على مدى خمسة أعوام. بالإضافة لذلك، وعد المسؤولون الأميركيون بنقل تكنولوجيا عسكرية لباكستان تشمل الطائرة المتطورة إف - 16. وفيما يتعلق بالاتفاقية النووية المدنية مع باكستان، اكتفت واشنطن في هذه المرحلة، في محاولة منها لعدم إغضاب باكستان، بالقول إنها تدرس هذا الخيار، وطلبت من باكستان في ذات الوقت أن تزيل أولا الشكوك الدولية المثارة حولها بشأن سجلها في الانتشار النووي، وخصوصاً المتعلق منها بشبكة عالم الذرة الباكستاني المعروف "عبد القدير خان". من الواضح إذن أن واشنطن ستواصل التلويح بهذه الجزرة أمام أعين إسلام أباد حتى توافق على تنفيذ كل ما تطلبه منها. ففي شهادتها الأخيرة أمام الكونجرس قالت وزيرة الخارجية الأميركية إن بلادها قد جعلت تعزيز الشراكة العسكرية مع باكستان "من أولوياتها القصوى"، وأكدت في شهادتها أن الجهود التي تبذلها واشنطن تجاه باكستان ضرورية لتحقيق النجاح في أفغانستان. ويرى المراقبون أن اللقاءات التي أجراها كبار القادة العسكريين الأميركيين خلال الزيارة مع الجنرال"كياني" قد أزالت أي ذرة من الشك حول الطرف الذي تسانده الولايات المتحدة في باكستان. فواشنطن التي لا تزال تتشدق بترويج الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم، عملت على استرضاء جنرالات الجيش الباكستانيين، وهو ما بدا واضحاً من خلال حقيقة أنها لم تستغرق وقتاً طويلًا في الموافقة على قائمة الطلبات العسكرية التي قدمها الجنرال"كياني"، خلال زيارة وفد بلاده الأخيرة للولايات المتحدة. وهذه الموافقة السريعة تعطي في نظر المحللين العسكريين إشارة واضحة على أن واشنطن قد قررت - مرة أخرى - دعم، والتعاون مع الجيش الباكستاني، بدلًا من العمل عن قرب مع الحكومة المدنية. والحقيقة التي تؤكدها وقائع التاريخ هي أن علاقة الولايات المتحدة بباكستان عادة ما تكون في أفضل حالاتها، عندما يتولى الحكم هناك جنرال. ولكن تلك الوقائع تؤكد في الوقت ذاته أن الولايات المتحدة اعتادت دوماً التخلي عن هؤلاء الجنرالات بعد أن تستوفي حاجتها منهم وبعد أن يكونوا هم نتيجة العمل عن قرب منهم قد فقدوا ثقة شعوبهم وأصبحوا في مسيس الحاجة لدعمها. ينطبق هذا على كافة الجنرالات بدءاً من الجنرال محمد أيوب خان في الستينيات من القرن الماضي الذي كان قدم لأميركا مساعدات كبرى في تشكيل منظمة الحلف المركزي "حلف بغداد"، وفي مواجهة خطر التوسع السوفييتي في الشرق الأوسط في أواخر خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وحتى الجنرال" ضياء الحق" في ثمانينيات القرن الماضي الذي تخلت عنه الولايات المتحدة قبل أن يلقى مصرعه في حادث طائرة مروحية بعد أن لعب دوراً كبيراً في تقديم الدعم والمساعدة لها من أجل طرد القوات السوفييتية في أفغانستان في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. لذا يمكن القول إن واشنطن لديها تاريخ في تفضيل مصلحتها الخاصة على أي اعتبار آخر عندما يتعلق الأمر بعلاقتها بباكستان. من هنا، ينبغي على القادة الباكستانيين المدنيين أن يتنبهوا للمخططات الأميركية. وعلى الرغم من إجبار مشرف على التخلي عن الحكم عام 2008، وعلى الرغم من أن انتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدة قد خلقا أملاً جديداً في إمكانية قيام الولايات المتحدة ببسط صفحة جديدة في التعامل مع باكستان، تقوم على تشجيع الحكومة الديمقراطية المدنية في المقام الأول، إلا أن ما نراه أمامنا الآن هو أن علاقة أوباما بالرئيس الأفغاني المدني تشهد تدهوراً، في الوقت الذي يقوم فيه الرئيس بتدعيم علاقاته مع العسكريين الباكستانيين. بعد العمليات الأخيرة للجيش الباكستاني في منطقة جنوب وزيرستان، وبعد القبض على زعيمي طالبان - باكستان البارزين خصوصاً الرجل الثاني في التنظيم الملا" عبد الغني بارادار"، أصبحت واشنطن مقتنعة تماماً أن الجنرال "كياني" رجل يتمتع بالقدرة على الإنجاز، وأنه، وحسب السيناريوهات الحالية، أكثر فائدة لهم من أي زعيم مدني باكستاني آخر. والزعماء المدنيون الباكستانيون الحاليون في تطلعهم لتأمين دور مركزي في عملية التسوية في أفغانستان، يجب ألا ينسوا للحظة واحدة، طموحات جنرالاتهم العسكرية لاغتصاب السلطة منهم، إذا لاحت لهم الفرصة وهي كثيراً ما تلوح عندما ينخرط السياسيون فيما بينهم في خلافات حادة. والنزاع الحالي بين زرداري وشريف من ناحية، وبين زرداري والبرلمان من ناحية أخرى يمكن أن يوفر فرصة ذهبية للجيش - الذي يعلن دوما أنه" منقذ باكستان" - للسيطرة على الأوضاع، والاستيلاء على مقاليد الحكم، بمباركة أميركية ضمنية. الجيش الباكستاني يعلم جيداً أنه يمتلك أدوات ضغط على الحكومة الأميركية في الوقت الراهن، ليس بسبب البنية الإرهابية القائمة في أفغانستان فحسب، وإنما لتصميم الأميركيين على الخروج من هذه الدولة الخطرة في أسرع وقت ممكن دون أن يتعرضوا لمزيد من الكدمات. والجيش الباكستاني - بالتأكيد - لن يدع هذه الفرصة لممارسة الضغط على الولايات المتحدة تفلت من يده بسهولة.