ليس الهدف من دراسة التاريخ مجرد معرفة الحوادث الماضية وتراكم المعلومات من الوثائق والحفائر والمخطوطات وأمهات المصادر الأولى. فذلك وقوع في النزعة التاريخية Historicism التي سادت الدراسات التاريخية في الغرب في القرن الماضي خاصة في ألمانيا وفرنسا. وهو أيضاً وقوع في الرد التاريخي Historical Reductionism الذي نبهت عليه الدراسات التاريخية المعاصرة وحذرت منه. ويعني رصد الوقائع التاريخية، الواحدة تلو الأخرى، دون معنى أو دلالة أو قانون، وتغليب المكان على الزمان، والانقطاع على الاتصال. ويشبه ذلك أيضاً "الحوليات" التي ترصد الحوادث عاماً بعد عام دون رؤية لمسار التاريخ أو قصده أو غايته. وكذلك كتب "الطبقات" القديمة التي ترصد علماء كل طبقة وفقهاءها وصوفيتها ومتكلميها وفلاسفتها ومحدِّثيها ومفسريها دون رؤية لصراع الأجيال أو مسار التاريخ أو تطور العلم أو بنائه. ليس التاريخ مجرد رصد وقائع كأننا في متحف للتاريخ بل هو قصد، وعي جماعي يصب في الوعي الفردي. التاريخ هو جذر الوعي وأساسه. ليس مجرد تصوير لفيلم مضى في مناظر متعاقبة بل الغرض فهم المسار والقانون، وروح التاريخ. لقد كانت النزعة التاريخية الوضعية في الغرب رد فعل على النزعة المثالية التي مثلتها مفاهيم روح التاريخ، وروح العصر، وروح الشعب، التي تتحكم في مسار التاريخ على نحو حتمي بحيث تصبح الإرادات الحرة للأفراد والشعوب مجرد أدوات لتحقيق المصير التاريخي العام. كان أوغيست كونت رد فعل على هيجل ورؤيته للتاريخ، هذه النزعة التي تضحي بالدراسات التاريخية من أجل النسق الفكري، وتتنازل عن البحث العلمي من أجل البناء المذهبي. فيتوارى التحليل لصالح التركيب، والخاص لصالح العام، وتتحول دراسة التاريخ إلى فلسفة التاريخ، تعبر عن المذهب أكثر مما تعبر عن التاريخ. ولا يعني ذلك في المقابل الوقوع في الخطابة السياسية أو الحماس الوطني أو الوعظ التاريخي باسم "الدرس المستفاد" أو "العبرة" كرد فعل على الرد التاريخي. الخطابة ليست علماً، والحماس ليس تحليلا، والوطنية ليست ابتساراً للماضي أو انتقاءً للحظات التاريخ خارج سياقها. إن الحماس للحاضر لا يعني مجرد إسقاطه على الماضي والإشادة به. فالماضي ليس أنشودة يغنيها الحاضر بل هو مسار تاريخي في وعي الجماعة. في الخطابة يتحول التاريخ إلى أدب، والشخصيات إلى أبطال، والحوادث إلى نماذج، والعلم إلى أخلاق. إنما التحدي هو إيجاد طريق ثالث بين هذين النقيضين يقوم على فلسفة في التاريخ تربط بين دراسة التاريخ والوعي به. فعلى أساس الوعي بالتاريخ تتم دراسة التاريخ. فدراسة الحركة الوطنية في عصر تتأزم فيه هذه الحركة يساعد على حل الأزمة. ودراسة الحركة العمالية في عصر تخبو فيه هذه الحركة يساعد على معرفة جذور الأزمة الممتدة عبر التاريخ. القصد من دراسة التاريخ ترسيخ الوعي بالتاريخ، وتحويل دراسة التاريخ إلى وعي به. الإنسان كائن تاريخي، ومعرفته بالعالم تصب في تاريخه. وإذا كان التاريخ هو الزمان فإن الإنسان وجود زماني، يصب زمان التاريخ فيه. وقد لاحظ فلاسفة التاريخ من قبل، هردر وكانط وليسنج وابن خلدون أن أعمار التاريخ هي مراحل العمر. التاريخ هو العمر الكبير، والإنسان هو التاريخ الصغير. الهدف من دراسة التاريخ هو تنمية الوعي التاريخي وتعميقه، فدراسة التاريخ ليست غاية في ذاتها من أجل عمل أرشيف للتاريخ خارج الوعي القومي بل هي وسيلة لتعميق الوعي القومي ومده بخبرات تاريخية سابقة تساعده على رؤية الحاضر ومكوناته التاريخية. لذلك يمكن دراسة التاريخ عن طريق قراءة الحاضر في الماضي. فالحاضر ما هو إلا تراكم للماضي. وعلى رغم وقوع الحوادث في تعاقب الزمان Diachronism إلا أن هناك بنية للحوادث في المعيّة الزمانية Synchronism. الحاضر هو الذي ينير الماضي عن طريق اختيار الموضوعات واستنتاج النتائج. التجربة التاريخية الحية الحاضرة هي التي تنير التاريخ الوثائقي الحفائري النصي الميت. ولا يعني ذلك مجرد إسقاط الحاضر على الماضي بمعنى التشويه وسوء الاستخدام خاصة إذا كان الحاضر مذهباً سياسيّاً مثل احتلال فلسطين ثم البحث عن المبررات التاريخية "الشرعية" المختلقة لذلك كما تفعل الحركة الصهيونية. ومثل غزو الكويت ثم اختلاق المبررات والقرائن لتبرير الغزو الغاشم. ومثل الغزو الاستعماري الأوروبي للاستيلاء على الثروات المادية والبشرية ثم إيجاد المبررات "الحضارية" لذلك مثل تمدين الشعوب المختلفة. إنما يتم الربط بين الماضي والحاضر داخل الوعي القومي الواحد لتحقيق الاستمرارية في الشخصية التاريخية والكشف عنها ورصد مراحل تطورها ومسارها في التاريخ. وقد سمى بيرجسون ذلك "الحركة التراجعية للحقيقة" Le movement rétrograde du vrai أو ترائي الحاضر في الماضي Le mirage du Présent au Passé. ويمكن أيضاً قراءة الماضي في الحاضر. فالماضي ما هو إلا مكون للحاضر، عوداً على بدء. وما دامت هناك بنية ثابتة في التاريخ فلا يهم أين تتم دراستها في الماضي أو الحاضر أو التنبؤ بها في المستقبل. ففي المجتمعات التاريخية مثل مجتمعات آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية ما زال التاريخ حيّاً في وجدان الناس. وقد يكون الماضي أكثر حضوراً في الحاضر من الحاضر نفسه. فالناس توجد بالتاريخ وتعيش في التاريخ إلى حد أن طغى الوعي التاريخي، باعتباره وعياً بالماضي، على الوعي بالحاضر والوعي بالمستقبل. فنشأت فيها الحركات النكوصية التي تدعو إلى العودة إلى الماضي باعتباره هو الطريق الوحيد للنهوض بالحاضر واللحاق بالمستقبل. فسقوط غرناطة يتراءى في احتلال القدس. ولا تنفصل هاتان الحركتان، قراءة الحاضر في الماضي، وقراءة الماضي في الحاضر. فهما اتجاهان لحركة واحدة، الذهاب والإياب، سماها هوسرل المنهج التراجعي التقدمي Regressive- Progressive Methode. وقراءة الحاضر في الماضي تجعل التجربة الحية أساساً لفهم النص التاريخي، وقراءة الماضي في الحاضر تكشف عن المكونات التاريخية في الحاضر. ولذا فإن دراسة التاريخ تتم إذن في وعي المؤرخ الذي يتقابل فيه الماضي والحاضر. فلا يوجد تاريخ بلا مؤرخ، ولا يوجد مؤرخ بلا وعي تاريخي. لذلك كان الوعي بالتاريخ هو شرط دراسة التاريخ. وعلى هذا النحو تتحقق وحدة شخصية المؤرخ بين دراسته للتاريخ ووعيه بالتاريخ، بين دوره كعالم ورسالته كمواطن. فلا يصبح علمه في جانب وحياته في جانب آخر، مهنته منفصلة عن رسالته. بل يغذي كل منهما الآخر، علمه يصب في حياته، وحياته تنير علمه. وعندئذ تصبح دراسة التاريخ هي علم تحليل الوعي التاريخي.