في الفصول الأربعة التي حواها الكتاب الذي نعرضه هنا، "سوق الأفكار: الإصلاح وردود الأفعال في الجامعات الأميركية"، يحاول مؤلفه لويس ميناند، وهو صحفي وأستاذ اللغة الإنجليزية بجامعة هارفارد، الإجابة على أربعة أسئلة رئيسية تتعلق بالتحولات التي حدثت في نظام التعليم العالي الأميركي. أولها: ما الصعوبات المحيطة بتبني مقرر دراسي موحد في مؤسسات التعليم العام الأميركي؟ وثانيها: لماذا أزمة الثقة في تخصصات الدراسات الإنسانية مؤخراً؟ وثالثها: لماذا تحول مصطلح "التداخل المنهجي" إلى ما يشبه العبارة السحرية؟ ورابعاً وأخيراً: لماذا التشابه بين سياسات الأساتذة الجامعيين؟ وقد تطلبت الإجابة على هذه الأسئلة جميعاً، إلقاء نظرة تاريخية على التراجع الذي حدث في مجال الدراسات الإنسانية بصفة خاصة منذ سبعينيات القرن الماضي. يقول المؤلف إن سبب ذلك ربما يرتبط جزئياً بالانكماش الذي حدث في حقل الدراسات النسوية واتجاهات التعددية الثقافية وما بعد الحداثة والتفكيكية وغيرها من نظريات النقد الأدبي الحديث. غير أن ذلك التقلص ليس سوى مظهر جزئي خارجي لتحول أعمق حدث في مناهج ومقررات التعليم العالي الأميركي منذ عقد السبعينيات. وأبرز سمات هذا التحول في نظره، تمكن المقررات المتخصصة في إدارة الأعمال وعلوم الحاسوب من صرف أنظار أعداد متزايدة من طلاب المستوى الجامعي وفوق الجامعي عن بقية التخصصات الأخرى، لاسيما الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية. ومن رأيه أن العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية كانت استثنائية في تاريخ التعليم العالي الأميركي، لما شهدته من توسع هائل في الجامعات، إذ وصل عدد الطلاب المسجلين خلالها في المستوى الدراسي الجامعي إلى خمسة أمثال ما كان عليه قبل الحرب، بينما ازداد عدد طلاب الدراسات العليا بنحو تسعة أمثال ما كان عليه. وهذا ما دفع بعض المؤرخين إلى وصف تلك العقود بأنها العصر الذهبي للجامعات الأميركية. أما مهمة وضع منهج موحد للتعليم العام الأميركي، ومن ثم تسويقه للكليات والمؤسسات التعليمية الجامعية، فقد وصفه البعض بأنه جهد عبثي لا يقل عن أي مسرحية للكاتب الفرنسي صمويل بكيت. بيد أن المؤلف يرد على هؤلاء بالقول إن تلك المقارنة ليست منصفة ولا في محلها، نظراً إلى قصر المسرحيات العبثية لبكيت. وعليه يكمل الكاتب رده بالقول إن إفراط النزعة التخصصية الضيقة للأساتذة الجامعيين المعنيين بتدريس مناهج التعليم العام، هي التي دفعتهم لازدراء تدريس المقررات الدراسية التمهيدية القصيرة. وليس هذا سوى جانب واحد فحسب من المشكلة، لأنها أعقد من ذلك بكثير. فقد ظلت مقررات ومناهج التعليم العام محل انتقاد وخلاف مستمرين منذ بدئها. فكثيراً ما انتقدت بسبب اتساعها الأفقي على حساب محتواها الرأسي المعرفي التخصصي الأدق. وكان القصد من ذلك الاتساع جعل المقررات والمناهج أكثر قرباً وملامسة للحياة الاجتماعية، منها لتكريس المعرفة ونشرها بحد ذاتها، بعيداً عن خدمة أي أهداف أو أجندة اجتماعية أو سياسية أو أيديولوجية. وكان في اعتقاد رواد ودعاة التعليم العام الأوائل من أمثال جون إريسكن، وجاك بارزون، ولينول تريلنج، ومورتمر آدلر... أن واجب الكليات أن تغرس حكمة الماضي في أذهان الطلاب حتى يتهيأوا لمواجهة تحديات ومتطلبات الحاضر الملحة. وفي الجانب الآخر وصف منتقدوهم ذلك النهج بأنه براجماتي أداتي وأكثر ملاءمة للهواة. ويعد الفصل الأخير من الكتاب الأكثر تشويقاً، إذ يناقش فيه المؤلف أسباب اهتزاز ثقة المؤسسات الأكاديمية في دراسة العلوم الإنسانية. ومن هذه الأسباب التحولات الطارئة على نظم استقطاب أساتذة الجامعات والكليات، وتوزيعهم على التخصصات المختلفة. كما تعرضت الأوساط الأكاديمية نفسها إلى تغيرات ديموغرافية عديدة، بما فيها التفاوت في نسب توزيع الجنسين على مستوى الأساتذة والدارسين. كما يرى المؤلف سبباً آخر لتراجع الدراسات النسوية يتلخص في طول الفترة الزمنية التي يتطلبها حصول الطالب أو الطالبة على درجة علمية في هذه التخصصات. أما تداخل المناهج وتشابه السياسات التعليمية بين الأساتذة الجامعيين، فيرتبطان حسب الكاتب بالسياسات التي تتبعها مؤسسات التعليم العالي فيما يتصل بتوظيف وإعادة توظيف الأساتذة اعتماداً على الأداء السنوي للطلاب. وهذه من السياسات الواجب إصلاحها حتى لا تزدحم هيئات التدريس بموظفين أكثر من كونهم أساتذة جامعيين. عبدالجبار عبدالله الكتاب: سوق الأفكار... الإصلاح وردود الأفعال في الجامعات الأميركية المؤلف: لويس ميناند الناشر: دار "نورتون آند كمباني" للطباعة والنشر تاريخ النشر: يناير 2010