أدت الأزمة اليونانية، إلى إدامة الأزمة التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي ذاته، التي بدأت مع المحاولة المجهضة لكتابة دستور أوروبي يمكن التصديق عليه من قبل الدول الأعضاء، ومع توسيع نطاق عضوية الاتحاد ليضم 27 دولة. هذان الحدثان، تحديدا، هما اللذان أنهيا محاولة أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، لتأسيس اتحاد سياسي. ولكن أوروبا نجحت، مع ذلك، في إقامة اتحاد مالي يتعامل بعملة موحدة هي اليورو. غير أن التهديد الذي كان يقف في طريق نجاح هذه العملة -والذي كان معروفا منذ البداية - كان يتمثل في أن الاختلافات الاقتصادية بين الدول المكونة للاتحاد المالي، كانت تجبر تلك الدول على اتباع خيارات سياسية مختلفة، وهو ما كان يؤدي بالتالي إلى فروقات في الميزانيات بين الدول المختلفة، يمكن أن تؤدي إلى تقويض "اليورو" في نهاية المطاف. وكانت قيمة "اليورو"، قد ارتفعت بعد فترة من الضعف، جاءت بعد وقت قصير من طرحه للتداول في صورة عملات ورقية ومعدنية، إلى مستوى يفوق قيمة الدولار الأميركي بمقدار النصف على الأقل، وذلك قبل أن يعود مجدداً للانخفاض. والشكاوى الأخيرة في أوروبا عن" أفول اليورو"، تعكس بشكل واضح، حقيقة تراجعه للوراء نحو نقطة التساوي مع الدولار، وهو ما يرجع - جزئياً- إلى سياسة أميركية مقصودة تم اتباعها خلال ولايتي كلينتون وبوش الابن تعمل على إبقاء الدولار رخيصاً، تحقيقاً لفائدة المصدرين الأميركيين. وقد تم تمويل هذه السياسة بواسطة المحاولات التي لم تتوقف من جانب الحكومة الصينية لشراء سندات الخزينة بالدولار الأميركي، وهي المحاولات التي وجدت الصين نفسها مدفوعة إليها بسبب وضعها غير المريح كأكبر دولة مصدرة للولايات المتحدة - وهو وضع كانت صادراتها الرخيصة تسهم في تسهيل وجوده. ذلك الوضع كان يتطلب من الصين بذل قصارى جهدها من أجل الحيلولة بين الدولار والمزيد من الهبوط، حتى لا يؤدي الأمر إلى تقليص أكبر لقيمة المدخرات الصينية بالدولار الأميركي. ومن المعروف أن حرب بوش الكبرى ضد الإرهاب، يجري تمويلها من قبل الصين وهو ما ينطبق أيضاً على حربي أوباما في العراق وأفغانستان، وهو التمويل الذي لم تُظهر الولايات المتحدة تجاهه قدراً كافياً من العرفان بالجميل كما لم تظهر بشكل عام فهما وإدراكاً واضحاً لحقيقة أن كل الأشياء الطيبة - مثل التمويل الصيني - لا بد أن يأتي عليها وقت وتنتهي. والشيء الذي يساعد على إدامة الأزمة الأوروبية الحالية، هو الاستهتار غير المتعمد الذي تعاملت به حكومات اليونان مع شؤونها المالية، والطريقة السيئة التي تعاملت بها ألمانيا مع اليونان (علما بأن ألمانيا بالذات ينطبق عليها في هذا السياق المثل القائل "ليس اللائم بأفضل ممن يوجه إليه اللوم" لأنها تدير اقتصادها بعجز يصل إلى 3 في المئة فوق مستوى الأمان المحدد من قبل المفوضية الأوروبية، كما أنها تقدم وعوداً - كما فعلت اليونان من قبل ولا تزال تفعل اليوم - بأن آداءها سيكون أفضل في المستقبل). ورفض ألمانيا المتعالي مساعدة اليونان على التغلب على مصاعبها، يتجاهل في جوهره حقيقة أن البنوك الألمانية على وجه التحديد، كانت من أكبر المقرضين لليونان، وأن تلك البنوك، وفي المقدمة منها بنك "لاندسبانكن" الحكومي، كانت أيضا من المتورطين حتى الأعماق في أزمة الرهن العقاري الأميركي. وقد اتضح فيما بعد أن بعض هذه البنوك كان بحاجة لإعادة تمويل، وبعضها الآخر قد جرى الاستحواذ عليه من قبل بنوك أكبر، وهو ما يتناقض مع الأوهام السائدة على نطاق واسع عن سلامة القطاع الألماني المالي ومتانته المفترضة، ويكشف في الآن ذاته عن الصعاب الحقيقية التي يواجهها"دويتشه بنك" وبعض أفرع بنك" لاندسبانكن" التابعة لحكومات الولايات الألمانية. وفروع البنوك الألمانية المعرضة للخطر، تقع في الولايات التي يسيطر عليها التحالف "الديمقراطي المسيحي" الذي تقوده "ميركل". ومع اقتراب موعد الانتخابات الإقليمية، أدلت المستشارة الألمانية بتصريحات انتقدت فيها أخطاء اليونانيين، وتجاهلت في الوقت ذاته المتاعب الداخلية التي تعاني منها، والتي لم يكن من المفترض أن يعرفها أحد باستثناء (المتعاملين المحترفين بالمشتقات المالية). ويجب في هذا السياق الانتباه إلى أن مصطلح"إنقاذ اليونان" الذي يفضل المعلقون الماليون استخدامه لا يعني حرفياً إقراضها أموالًا، وإنما يعني ضمان أي محاولات جديدة تقوم بها اليونان للحصول على قروض، بحيث يمكنها الحصول على تلك القروض بأسعار فائدة لا تزيد عن تلك السائدة في دول الاتحاد الأوروبي. والحقيقة أن اليونان يجب أن تلوم نفسها على أزمة الميزانية التي تعاني منها، وخصوصاً أن الحكومات التي سبقت وصول الاشتراكيين إلى السلطة، وتولي السياسي المخضرم"جورج باباندريو" لمنصب رئيس الوزراء، كانت قد تمتعت بمعاملة خاصة، وحصلت على مساعدات من بنك "جولدمان ساكس" الأميركي الشهير، استفادت بتهاون المحاسبين الذين غضوا الطرف عن التزوير في الدفاتر المحاسبية بحيث تبدو تلك الدفاتر في نهاية المطاف، وكأنها ملتزمة بالقواعد الموضوعة من قبل البنك المركزي الأوروبي. وقد كشف "باباندريو"، الذي كان قد تولى مهام منصبه حديثاً، ما الذي كان يدور في الماضي، كما قامت البنوك الألمانية، والمعلقون الماليون، والمستشارة الألمانية ذاتها، بالإيماء إلى أن ألمانيا قد تتخلى عن "اليورو"، وتترك دول البحر المتوسط الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والمنتمية لمنطقة "اليورو"، والتي تعاني من مشاكل ديون مثل إسبانيا والبرتغال واليونان تتحمل وحدها وزر أخطائها. مع كل ذلك، تمكنت اليونان، في التاسع والعشرين من مارس الماضي، من الحصول على قروض جديدة بفائدة تزيد عن 6 في المئة، وهو ما يعني ضمناً أن حكومات اليونان القادمة وعمالها ومستهلكيها سيعيشون في حالة من التقشف خلال السنوات القادمة. ويشار في هذا السياق إلى أن كلا من "سايمون جونسون" كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي سابقاً، والمصرفي "بيتر بون" قد اقترحا في عدد أبريل من مجلة "بريتش بروسبكت" طريقاً أفضل للتعامل مع أزمة اليونان. يتمثل هذا الطريق في اتباع أسلوب يعتمد على قيام اليونان بإدارة عجزها عن السداد بطريقة نظامية، متحكم فيها، وهو ما سيكون، في رأيهما، أقل إيلاماً وأكثر إيجابية ومنطقية في الآن ذاته، على أساس أن جزءا كبيرا من الديون اليونانية مستحق لبنوك ألمانية في الأساس. ويليام فاف ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"