ترتبط مكانة الأزهر الشريف بمدى استقلاله ونطاق دوره. ولذلك تراجعت هذه المكانة في العقود الأخيرة عندما بدا لكثير من مسلمي العالم أنه أصبح مؤسسة مصرية من ناحية، وهيئة رسمية أو شبه رسمية من ناحية ثانية. ولعل أكثر ما يرسم هذه الصورة الشائعة هو تعاطي الدولة المصرية مع موقع شيخ الأزهر باعتباره جزءاً من بيروقراطيتها العليا. وقد ظهر ذلك مجدداً في طريقة تعيين الدكتور أحمد الطيب رئيس جامعة الأزهر في هذا الموقع بعد عشرة أيام على رحيل الدكتور طنطاوي الشهر الماضي. وكما أصبح معتاداً منذ نحو نصف قرن، جاء اختيار الطيب بالطريقة الروتينية التي خلقت نظرة سلبية إلى هذا الموقع في أوساط كثير من المسلمين أياً يكون شاغله. وتعود بداية هذه النظرة السلبية إلى عام 1961 عند ما صدر القانون 103 في شأن تنظيم الأزهر. فلم يكتف مشرعو هذا القانون بإعطاء رئيس الدولة في مصر سلطة تعيين شيخ الأزهر، بعد أن كان اختياره من "هيئة كبار العلماء" بطريقة أقرب إلى التوافق، وإنما جعلوه موظفاً كبيراً في الدولة المصرية بدرجة رئيس وزراء. ومنذ ذلك الوقت، تكرر استخدام الأزهر سعياً لإضفاء "شرعية دينية" على بعض سياسات الدولة المصرية. فإذا أرادت حرباً، انبرى الأزهر لتأكيد ضرورة أن نعد لهم ما نستطيع من قوة. وإذا اتجهت إلى السلام، أسرع الأزهر إلى التذكير بأن المسلمين مأمورون بأن يجنحوا إلى السلم إن فعل أعداؤهم ذلك! ولذا لم يكن الدكتور طنطاوي استثناءً بين شيوخ الأزهر في هذا الزمان، حتى إذا كان الهجوم الذي شنه ضده المختلفون معه أشد حدة. فالمشكلة أكبر من شخصه وأسبق. إنها مشكلة المؤسسة الدينية الرسمية التي فقدت ما كان لها من استقلال نسبي، فصغرت مكانتها. وانعكس ذلك على دورها الذي ظهرت محدوديته في التعاطي مع التطرف الديني الذي ضرب عقل الأمة منذ عقود، وفي تنظيم الفوضى الضاربة الآن في سوق الفتوى إلى حد يهدد ما بقى من هذا العقل. لكن هذا لا يعني أن مشكلة شيخ الأزهر هي مجرد نتيجة أو عرض من أعراض العلة التي أصابت المؤسسة. فالعلاقة بين أزمة الأزهر ومشكلة شيخه هي أقرب إلى العلاقة الجدلية المعقدة منها إلى العلاقة السببية البسيطة. فقد أدى إضعاف المؤسسة عبر "تأميمها"، في العام الذي أممت فيه الدولة المصرية الاقتصاد والمجتمع، بعد أن كانت قد احتكرت السياسة والإعلام، إلى تغيير في صورة الشيخ الذي أصبح معيناً بقرار من رئيس الجمهورية. كما أن تعيينه، على هذا النحو، أضعف ثقة الناس فيه، وبالتالي في المؤسسة التي يقف على رأسها. وهكذا، يصعب تصور أنه بالإمكان حل مشكلة موقع شيخ الأزهر بمعزل عن معالجة أزمة المؤسسة الدينية الرسمية. فقد أصبحت هذه المؤسسة قيداً على أي شيخ يمكن أن ينزع إلى الاستقلال عن سلطة الدولة، مثلما بات هو ضابطاً لإيقاع هذه المؤسسة إذا ظهر فيها ميل إلى الخروج على الخط العام الذي تسير فيه منذ نحو نصف قرن. والأمثلة على ذلك كثيرة. ففي المرات القليلة التي اتخذ فيها طنطاوي موقفاً مستقلاً، وقفت المؤسسة ضده كما حدث مثلاً حين أيد مشروعاً قدمه أحد أعضاء البرلمان في الدورة الماضية لتغيير طريقة اختيار شيخ الأزهر من التعيين إلى الانتخاب. فقد رفض مجمع البحوث الإسلامية ذلك، رغم أن المشروع كان يقضي بانتخاب الشيخ من بين أعضاء هذا المجمع الذي حل -منذ 1961- محل هيئة كبار العلماء. وفي المقابل كان شيخ الأزهر يتدخل، سواء في عهد طنطاوي أو أسلافه، لإعادة المؤسسة إلى الخط إذا صدر عن مجمع البحوث الإسلامية ما قد يمكن اعتباره تجاوزاً لهذا الخط. لذلك لن يتغير شيء بعد تعيين الدكتور الطيب شيخاً للأزهر. وإذا كانت عضويته في المكتب السياسي للحزب الحاكم في مصر أثارت انتقادات واسعة، فليس "تحزب" شاغل هذا الموقع، الذي يفترض أن يعلو الدول وليس فقط الأحزاب، إلا عرضاً من أعراض المشكلة، مشكلة الأزهر المؤسسة ومشكلة الطريقة التي يُختار بها شيخه. ولأنها مشكلة مركبة، فلا يكفي انتخاب شيخ الأزهر، وفق ما يدعو إليه كثيرون الآن، لحلها. فهذا الحل يتطلب إصلاحاً مؤسسياً يعيد إلى الأزهر استقلاله، أو على الأقل يفك ارتباطه بسلطة الدولة ويضمن مسافة معقولة بينهما. وعندئذ، فقط، يصبح انتخاب الشيخ عنصراً رئيساً من عناصر إصلاح الأزهر واستعادته مكانته. فالانتخاب ليس حلاً سحريا. لذلك لا يصح اللجوء إليه إلا ضمن حل أوسع نطاقاً للمشكلة في عمومها، ليس فقط لأنه لا يكفي، ولكن أيضا لأنه قد يؤدي إلى نتيجة عكسية تفاقم هذه المشكلة وربما تلحق ضرراً كبيراً إذا جاءت الانتخابات بشيخ متعصب أو متطرف أو مغامر. ولا يمكن استبعاد هذا الاحتمال في أجواء سياسية اجتماعية دينية يسودها التوتر والاحتقان، ويزداد فيها الميل إلى التشدد، حيث يمكن أن تكون المزاودة هي الطريق إلى الفوز في انتخابات شيخ الأزهر، حيث تكون الغلبة للصوت الأعلى والخطاب الأعنف والموقف الأكثر حدة. ولنتخيل، مثلاً، إجراء هذه الانتخابات في الأيام الماضية في أجواء الهجمة الاستيطانية الإسرائيلية في القدس. فهل يصمد أي مرشح عاقل أمام من يرفع شعار "حيّ على الجهاد" و"هيّا للحرب"، مهما كان هذا المرشح صالحاً ومصلحاً وعالما جامعاً بين علوم الدين والدنيا ومثقفاً ملما بما يشغل الناس وشجاعا في إصراره على صحيح الدين ومصارحة الغارقين في قشوره بأن الإسلام هو العمل والبناء والإنتاج والإنجاز والتقدم؟ والحال أن الدعوة المتداولة الآن إلى انتخاب شيخ الأزهر، بمعزل عن إصلاح الأزهر نفسه، تنطوي على خطر كبير لأن الأخذ بها قد يضع شيخاً متطرفاً على رأس المؤسسة الدينية الرسمية في مصر التي تمر الآن بلحظة بالغة الصعوبة تختلط فيها الأوراق. فإذا جاءت الانتخابات بشيخ متطرف ومتعصب ومغامر، سيكون هذا خطراً على العالم الإسلامي في مجمله، وليس فقط على مصر. ومن هنا مغزى الربط بين تصحيح طريقة اختيار شيخ الأزهر عبر اللجوء إلى الانتخاب وتصحيح أوضاع المؤسسة الدينية في مجملها، لأن هذا التصحيح لن يحدث إلا في سياق إصلاح عام يشمل النظام السياسي والاجتماعي ويحدد الاتجاه الذي ستمضي فيه مصر المستقبل، بما يؤدي إلى وضع حد للتوتر والاحتقان الراهنين. وإذا كان شيخ الأزهر يُعين منذ خمسة عقود كاملة، فلا ضرر أن يستمر هذا الوضع سنوات قليلة أخرى، حتى لا يؤدي التعجيل بانتخابه في ظروف غير ملائمة إلى عواقب وخيمة قد يدفع العالم الإسلامي كله ثمنها.