لم نبالغ حين أكدنا من قبل أن إطلاق "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت الصيغة النهائية للمشروع النهضوي العربي في الثاني والعشرين من شهر فبراير الماضي يعد حدثاً فكريّاً ينبغي الوقوف أمامه بالتحليل طويلاً. وذلك لأن مفهوم النهضة في حد ذاته يثير عديداً من المشكلات النظرية والتاريخية في آن واحد لأنه يحيل على الفور إلى مشروع النهضة بالمعنى التاريخي للكلمة الذي بدأ في مصر أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والذي انتقل فيما بعد إلى بيروت، وأقطار أخرى عربية. وقد اعتبرت هذه النهضة منذ قيامها أنها بمثابة التنظير لحقبة التنوير الأوروبي، وتتسم بكونها مشروعاً للتحديث الفكري والإصلاح. وينظر لهذه النهضة أساساً على أنها وثيقة الصلة بالصدمة الحضارية التي نجمت عن الغزو الفرنسي بقيادة نابليون لمصر عام 1798، بعدما تبين بجلاء حجم التخلف العربي وخصوصاً إذا ما قورن بالتقدم الغربي. ولاشك أن مشروع محمد علي للنهوض بمصر كان بداية التفكير بطريقة إيجابية من أجل الإجابة على السؤال الرئيسي: لماذا التخلف وما هي النهضة ومكوناتها؟ وفي هذا السياق يمكن فهم حركة التحديث في الإمبراطورية العثمانية التي اتخذت شكل "استحداث تنظيمات جديدة". وهكذا يمكن القول إن المشروع النهضوي العربي الذي تضمنه أحد الكتب التي يصدرها "مركز دراسات الوحدة العربية"، يمكن أن يكون أداة فعالة يستخدمها المثقفون العرب والمنظمات الأهلية والدوائر السياسية العربية لمناقشة ماضي وحاضر ومستقبل الأمة العربية. ويمكن القول إن المؤرخ المغربي عبدالله العروي استطاع أن يصوغ بدقة الاستجابات المختلفة للتحدي الغربي وخصوصاً بعد الحملة الفرنسية على مصر. وقد طبق في ذلك طريقة "الأنماط المثالية" Ideal Typed التي سبق أن ابتدعها عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر". وتقوم هذه الطريقة على اختزال ظواهر نوعية متعددة تحت عنوان واحد جامع يسمح بفهم مضمونها واتجاهها على الفور. وهكذا قرر العروي أن المجتمع المصري خصوصاً ظهرت فيه ثلاثة أنماط من الاستجابات. الاستجابة الأولى أطلق عليها "وعي الشيخ" ويقصد به الشيخ محمد عبده الذي شغل من قبل وظيفة مفتي الديار المصرية وكان فقيهاً مجدِّداً. وقد ذهب إلى أننا كعرب لسنا مضطرين لأن نحتذي النموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والثقافة لأن لدينا الإسلام الذي يمكن تحديثه حتى يواكب العصر في مجال المعاملات. ولذلك نشر كتابه "الإسلام والعلم" حتى يثبت أن الإسلام لا يناقض المنهج العلمي. أما الاستجابة الثانية فهي "وعي الليبرالي" ويقصد به الدكتور أحمد لطفي السيد الذي شغل منصب رئيس الجامعة المصرية وكان يطلق عليه "أستاذ الأجيال". وقد كان يرى أن نقطع مع التراث ونحتذي النموذج الغربي بالكامل في السياسة والاقتصاد والثقافة. وتبقى الاستجابة الثالثة والأخيرة وهي "وعي داعية التقنية" ويقصد المفكر المصري الاشتراكي سلامة موسى الذي كان يفند حضارة المجتمعات الزراعية، ويدعو إلى الحضارة الصناعية بنزعة اشتراكية. وهذه التيارات الفكرية الثلاثة شهدت مصائر مختلفة في مجال الممارسة التاريخية. ويمكن القول إن التيار الليبرالي تغلب في مصر، وبعض البلاد العربية، وذلك في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات التي شهدت تطبيق نظم ديمقراطية شبيهة بالنظم الغربية. فقد قامت أحزاب سياسية مختلفة تداولت على الحكم في ضوء الانتخابات الدورية التي كانت تجرى وإن كانت في ظل الاحتلال الأجنبي الذي أثر تأثيراً سلبيّاً على هذه الممارسة. وفي هذه الحقبة أُقصي كل من التيار الإسلامي الإصلاحي والتيار الاشتراكي. وجاء من بعد عهد الانقلابات العسكرية العربية والثورات التي قضت قضاء مبرماً على الميراث الليبرالي في السياسة والاقتصاد وفتحت الباب أمام الخيار الاشتراكي كما حدث في مصر وسوريا والعراق، التي شرعت أيضاً في برامج تصنيع طموحة. غير أن الهزيمة المصرية في حرب يونيو 1967 في المواجهة التاريخية مع الدولة الإسرائيلية فتحت الباب أمام صعود التيارات الإسلامية التي جنح بعضها إلى التطرف والإرهاب في الوقت الذي تجمد فيه أو صُفي التراكم الاشتراكي، وبدأت بوادر متواضعة لعودة الليبرالية والديمقراطية في بلد مثل مصر، وإن كانت هذه تطورات ما زالت في بداياتها لأن السلطوية العربية ما زالت راسخة. وأيّاً ما كان الأمر فإنه يمكن القول بعد هذه الملحمة التاريخية الوجيزة عن مسار النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر حتى الآن إن أسئلة النهضة التي تثار اليوم ليست -كما يزعم بعض الكُتاب العرب- هي نفسها التي أثيرت في عصر النهضة العربية الأولى. وتشهد على ذلك خطة مؤتمر مهم نظمته جامعة "بالاماند" في لبنان وذلك في مايو 2006. وضعها باقتدار كبير الدكتور شربل داغر الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بالجامعة. وقد لفت نظري أولاً عنوان المؤتمر وهو "هل النهضة سجينة الماضي أم هي حافز للحاضر؟". وتُقرر مقدمة خطة المؤتمر أن الغرض منه هو مراجعة الفكر العربي في عصر النهضة، باعتبار ذلك ضرورة لفهم الحاضر. والمؤتمر بذلك يحاول إعادة اختبار وعود النهضة وحاضر المجتمعات العربية اليوم في الحقبة الحديثة وبعد نهاية الاحتلال الأجنبي. ولذلك حاول المؤتمر الإجابة على أسئلة كبرى من قبيل هل هناك في النهضة كفكرة طموح ونموذج تاريخي ما للسلوك يفسر حالة التراجع والاضطراب السائدة بين عديد من المثقفين العرب في الوقت الراهن؟ وهل هناك في النهضة ما منع ممارسة النقد الإيجابي وممارسة التفكير العقلاني في الموضوعات المتعلقة بها؟ غير أن أهداف المؤتمر تتضح أكثر حين نعرف أنه قسم لمناقشة أربعة محاور أساسية هي "النص والتاريخ والعولمة"، و"السلطة والدولة" و"الاستعمار والديمقراطية والإنسان والهوية والحضارة" وأخيراً "مشكلة التفكير والمثقف". وفي تقديرنا أن هذه المحاور جميعاً تثير أبرز أسئلة النهضة المثارة حالياً والتي حاول المشروع النهضوي العربي الذي طرحه "مركز دراسات الوحدة" أن يجيب على عدد منها بطريقته. والواقع أن برنامج مؤتمر جامعة "بالاماند" يثير في المحور الأول ستة أسئلة رئيسية تتعلق بتعميم المشهد العربي الراهن ومن مختلف جوانبه، وذلك وضعاً في الاعتبار التغيرات الكبرى التي لحقت به في فترة النصف قرن الأخيرة. والأسئلة تتعلق بالسلطة الدينية وقدسية النص الديني ومسألة الاجتهاد والتغير في التاريخ. وتثير هذه الأسئلة الموضوع الأهم وهو الموقف من التراث الذي ثار بشأنه الجدل العنيف طوال الخمسين عاماً الماضية بين أنصار الأصالة والمدافعين عن المعاصرة. ومن هنا أهمية ما طرحه المؤتمر: هل التراث مكون للهوية أو هو وسيلة يُتذرع بها للانطواء على الذات؟ ولدينا الشيع والمذاهب الدينية المتعددة والمتصارعة في المجتمع العربي وتأثيرها السلبي على موضوع المواطنة. والسؤال الكبير الذي طُرح حول علاقة التراث بالعولمة وهل هناك صراع بينهما أم أنه يمكن لنوع من الشراكة أن يقوم؟ وأخيراً لدينا موضوع الأصولية والعولمة وصراع الحضارات. وهكذا يمكن القول إن مؤتمر جامعة "بالاماند" حين أراد أن "يزور" مرة أخرى موضوع الندوة لم يتردد في الاشتباك مع الظاهرة التي تملأ الدنيا وتشغل الناس وهي العولمة. ولقد كانت هذه النقطة بالذات التي أثرناها أثناء مناقشة مسودة المشروع النهضوي العربي في أحد الاجتماعات المهمة التي عقدت في "بيت النهضة" وهو اسم مقر "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت، الذي اختير عمداً للإشارة إلى محورية موضوع النهضة في كل مشروعات هذا المركز الذي وقف منذ إنشائه مدافعاً عن القومية العربية داعيّاً لاستئناف النهضة بعد تعثرها في العقود الأخيرة لأسباب شتى.