ما كان لقمة سرت الأخيرة إلا أن تخرج "حبلى" بقمتين -عربية استثنائية وعربية- إفريقية مع نهاية هذا العام- دون حدوث معجزات لا على مستوى القرار ولا على مستوى المصالحات العربية. ولقد كان لغياب أكثر من عشرة من القادة العرب أثر على مستوى التمثيل والقرار. جاءت قمة سرت وهي الثانية والعشرون في تاريخ القمم العربية في وقت لم تكن الأجواء مهيأة لعقدها، والذين راهنوا على أنها حققت المنجزات العظيمة جانبهم الصواب. إن المطالبة برفع الحصار عن غزة بشكل فوري، مطلب لا يمكن أن يتحقق عبر قرار قمة عربية، لأن إسرائيل تعلمت ألا ترتدع؛ بل ولا تلتفت إلى قرارات القمة العربية أو بيانات الأمين العام للجامعة العربية. وإلا لكانت التفتت إلى قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بعدواناتها المتكررة على الأراضي العربية في فلسطين وخارجها. والشعب الفلسطيني "شبعَ" عبارات التأييد والتشجيع والإدانات للأعمال الإسرائيلية ضده. إن هذا الشعب يتطلع إلى قوة الفعل! ونعتقد أن هذه القوة لن تتحقق عبر 500 مليون دولار فحسب، بل عبر احتجاج واضح وصريح إلى مجلس الأمن الدولي، ومن قبل كل العرب، وعبر تهيئة المناخات المدنية، لشجب الأعمال العدوانية التي تقوم بها سلطات الاحتلال في قطاع غزة وفي مدينة القدس، وخصوصاً ما تعلق بمضايقات سكان المدينة أو أعمال الحفر والهدم في أساسات المسجد الأقصى. الأمر الذي يستوجب أن يقدم مندوبو الدول العربية لدى اليونسكو شكوى عاجلة وواضحة بهذا الشأن، ويطالبوا بإرسال فريق دولي لمعاينة تلك الأعمال باعتبار المسجد الأقصى شاهداً حضاريّاً للبشرية جمعاء وليس فقط مكاناً مقدساً للمسلمين والمسيحيين فحسب، حيث إن تلك الأعمال تهدد بهدم المسجد، وهذا ما تسعى إليه إسرائيل لتقيم عليه "الهيكل"، وبالتالي يتكرس شكل الاحتلال العسكري مع طابعه الديني التاريخي المزعوم. إن طرح مشروع الاتحاد بين الدول العربية ليس زمانه اليوم! ولنا تجربة مريرة مع الاتحادات! فلقد سقط الاتحاد الثنائي بين مصر وسوريا بعد عامه الأول! وسقط الاتحادان (المشرقي والمغاربي) وتكفينا الجامعة العربية بكل همومها وأحزانها، وإن الدخول في "اتحادات" مع ظروف العالم العربي الهشة الراهنة لن يكتب له النجاح. بل إن بحث هذا الموضوع يعتبر تضييعاً للوقت. أما تطوير منظومة العمل العربي المشترك! وهو موضوع كان من الأهمية بمكان في قرارات قمة سرت، فهذا الموضوع لم تقصر فيه الجامعة العربية "لتاً وعجناً" ولم يحدث التطور المأمول. ذلك أن القرار العربي "مخطوف" من جهة، وأن الجامعة تعمل كسكرتارية للدول، بل إن الدول والقادة هم الذين إن اختلفوا اختلف القرار العربي، وإن تضامنوا عَقَلَ القرار العربي. ونعتقد إن إجهاد الجامعة العربية والدول بتطوير منظومة العمل العربي المشترك يعني ضمن ما يعني حرق المراحل وإضاعة الوقت. إن أول فقرة في البيان الختامي لقمة سرت تشير إلى التضامن العربي، وتمسك القادة بذلك التضامن، والسعي لإنهاء أية خلافات عربية! وهذا الموضوع طويل وشائك ومحرج! ونحن ندرك أن الخلافات العربية رافقت الجامعة منذ إنشائها عام 1945، بل إن تلك الخلافات في ازدياد، لأن فكرة الزعامة ما زالت مسيطرة في عقول بعض الزعماء العرب. صحيح كان هنالك تضامن أيام العدوان الثلاثي على مصر، وعدوان 1967 والموقف العربي المشرف عام 1973، ولكن رحل الكثير من الرجال المؤمنين بالتضامن والذين يواجهون الموقف برأي واحد لا رأيين!؟ وموقف واحد لا موقفين! ولأول مرة نلاحظ اعترافاً من الجامعة العربية بالمجتمع المدني وحقوق الإنسان العربي، التي جاءت على استحياء في الفقرة التاسعة عشرة من البيان، وتقول: "عزمنا على تعزيز وتنمية الوعي بثقافة حقوق الإنسان بين أفراد المجتمع في الأقطار العربية". ونعتقد أن الأحوال في أغلب البلاد العربية تخالف ما تمت الإشارة إليه في القرار المذكور. فالوطن العربي تُقمع فيه الكلمة، ويُصادر الرأي الحر، وتصادر الحريات وتوضع قوانين صارمة ضد ممارسة الإنسان لحياته الطبيعية وحقوقه الدستورية! وهذا موضوع لا يحتاج لقرار من الجامعة العربية! بل لأن تقوم الدول التي تعتقل المواطنين بدون ذنب، وتصادر حقوقهم المدنية، أو توسمهم بالعمالة أو الخروج على الشرعية، وغيرها من التهم بتعديل تلك الممارسات، وتمنح الشعوب مزيداً من الحريات الأساسية، كحق العمل، والتعبير كما تنص على ذلك الدساتير، وتحظر غيره القوانين. إننا نعتقد أن اللعب بالكلمات قد فات أوانه. فالتقارير الدولية -ومنها التقرير الدوري الشامل- تشير إلى تدني وضع العالم العربي في قائمة الدول المحترمة لحقوق الإنسان. ونحن طبعاً مع الإشارة إلى مسألة حقوق الإنسان ودعم التوجه المدني، ولكن هذا يحتاج إلى عمل دؤوب، بل لعل من المفيد أن تعقد الجامعة العربية قمة خاصة بهذا الموضوع، ويُدعى إليها المختصون في هذا المجال، بعيداً عن أصحاب المظاهر الزاهية، أو الكرفاتات الفرنسية. لو كانت في الوطن العربي حركات مدنية جادة، ومؤسسات مجتمع مدني؛ لما نشطت إسرائيل في عدوانها، ولما عربدت كما تشاء في الأرض والسماء العربية. لقد أصبح لمؤسسات المجتمع المدني شأن كبير في سياسات الدول المتطورة، ولكن القضية في الوطن العربي ما زالت تدور في نظرة "الخوف" و"الترصد" التي تنظر بها أغلب الأنظمة العربية لهذه المؤسسات. نقول إن هذه القمة العربية لم تأت بمعجزة، ولم نكن نتصور ذلك، لأن السياسة فن الممكن، والقمة قد تكون حققت هذا الفن.. وهو "الحمل بقمتين أخريين " ونأمل ألا يكون هذا الحمل كاذباً.