مساء الأربعاء، التاسع من أبريل 2003، كنا جماعة من العراقيين جلوساً بمقهى، نترقب ما سيسفر عنه اجتياح دبابتين أميركيتين لوسط بغداد، وحينها كانت المشارب متضاربة، بين ساعٍ للخلاص ومعترض. فالجدل كان يدور، خلال أيام الحرب، حامياً وتتبادل التهم من عَمالة للنِّظام وأخرى للأميركيين، وفي تلك اللحظات الملتبسة كانت الحدود غائبة بين العمالتين، فما أن بُث مشهد سقوط التمثال حتى تداخلت المشاعر، وصعد أحد "عملاء" النِّظام طاولة المقهى معبراً عن فرحته بهستيريا، وتبادل مع بقية "العملاء" التهاني! أمسى، في ظل ذلك الزخم من المشاعر، لا يُفاضل بين فريق وآخر، فلكلٍّ منهما مبرره، ليس مَنْ شجب السقوط، هو من أزلام النِّظام، ولا مَنْ اندفع متوسلاً الخلاص، بأية وسيلة، هو من عملاء أميركا. لأن العمالة، حسب المزاج العراقي المضطرب، مصطلح فضفاض، وتهمة سهلة توظف بلا مسوغ واعتبار، وكانت المفاجأة أن يظهر العميل الفعلي، لا من مدافع عن النِّظام، ولا من مؤيد باللسان والقلم للأميركان. لقد ظهر العميلان، إذا جاز استعمال المفردة، من غير المتوقعين، فقد كشفت دفاتر المخابرات العراقية التي نُهبت من دوائرها، عن عملاء من بين معارضين أشداء، علة ما يبدو في الصورة، من الوسط العربي والكُردي العراقيين، وبالمقابل كانت المفاجأة أن يظهر كاتم أسرار النِّظام ومصدر ثقته عميلاً منسقاً مع الغزاة، هذا ما ذكره الرئيس نفسه، وحسب محاميه في كتاب "صدام حسين من الزنزانة الأميركية" (الخرطوم، شركة المنبر 2009). كان خلاص القيادة من الإبادة الجماعية بفضل انتباه صدام لغياب أبرز المؤتمنين، والذي لم يظهر حتى اليوم لا بالصورة ولا بالصوت! فبعد لحظات، من خروج المجتمعين، دُك مبنى الاجتماع دكاً! ظل الجدل بين الاحتلال والتحرير محتدماً، فلا طالبو التحرير من النِّظام اكتفوا بسقوطه وإزالته من على وجه العراق، ولا المعترضون على الحرب، وطالبو التحرير من الأميركان، اكتفوا باستعداد المحتلين للخروج من البلاد، بعد توفر الفرصة المواتية، وفي مقدمتها الحالة الأمنية، وقد حُدد ذلك بمعاهدة صريحة. لكن، بعد التأمل في أقوال الفريقين وممارساتهما، خلال السبع سنوات (2003- 2010) الماضية، تجدهما متفقين على بقاء الجدل حياً بين الاحتلال والتحرير، مع تبادل المواقع، تحرير من النِّظام تحول إلى تحرير من الاحتلال، فوفقاً لقانون الديالكتيك الهيجلي، وحدة وصراع الأضداد، لا وجود للضد من دون ضده، أو الخصم بلا خصمه، وبالمحصلة هناك حرص خفي يمارس من أجل الإبقاء على المواجهة بين النِّظام والاحتلال ولو بعد إزالتهما معاً. يبدو أن التركيز على الاجتثاث، والعمل بالمساءلة والعدالة وبهذا الأسلوب الكيدي، هو للإبقاء على مفردة النِّظام السابق حيةً، فلا يسر أهل الاجتثاث إعلان الآلاف من منتسبي حزب "البعث"، وموظفي دوائر النِّظام، التخلي عن طبائع نظامهم عبر الذهاب إلى صناديق الاقتراع، ونبذ العنف، والمشاركة في العمل السياسي العلني، شأنهم شأن بقية العراقيين... ولعرقلة هذا التحول، تحدثوا عن تقديم التوبة أو البراءة، وهم يعلمون أن للمجتمع العراقي أرثاً غير محمود مع صكوك البراءة. لكن الأصل في العرقلة هو الحرص على وجود الضد، لتبقى مفردة التحرير، من النِّظام السابق، حيَّة حتى بعد موته، وإلا ما أهمية أو وظيفة دائرة الاجتثاث إذا لم يكن هناك ما يُجتث! كذلك سيبطل مسوغ عمل المقاومة، الشريفة وغير الشريفة، حسب التصنيف الجاري، بعد خروج الأميركان، ويموت مشروع التحرير موتاً مفاجئاً. فماذا تفعل طلائع ثورة العشرين، والجيوش الكثيرة، التي أطلقت على نفسها أسماء الصحابة والأئمة والأولياء الصالحين، إذا تحررت الأرض بالفعل، إنها أكاذيب وألاعيب، تتلخص في الحفاظ على العدو الضد، وليس أكثر من اضطراب الوضع الأمني تأخيراً لجلاء المحتل! وإلا بما يفسر الموقف السلبي من الانتخابات العامة التي توجه إلى مراكزها ملايين العراقيين، وهم ينشدون التعجيل بالتحرير، وتصفية آثار السابقين، لكن عبر البيعة لحكومة تتمكن من بسط الأمن، والشروع بالبناء! أيمكن لأحد تخوين ملايين المقترعين بالعمالة للأميركان، أو وصفهم بالسذاجة والقصور! أليس فوز "القائمة العراقية" البائن كان رغبة شعبية جادة لأخذ المبادرة، وإسقاط مشاريع تفتيت البلاد، والمواجهات بين الطوائف، وخطوة للخلاص من آثار نظام سابق واحتلال راهن على حد سواء؟ وأي بلد محتل، على وجه الحقيقة، يتمكن من ممارسة الحرية، وبهذه السعة! صراحة، لم ينته النِّظام السابق حتى جاء ابتكار مصطلح الاجتثاث، ولم يُعلن الاتفاق مع الأميركان حتى علا هتاف التحرير، ووُصمت الأحزاب والجماعات والشخصيات الداخلة في الانتخابات الحرة بالعمالة، كلُّ ذلك من أجل الإبقاء على حياة الخصم، فالاعتراف بزواله يعني الاعتراف بزوال الذات. لا يبدو تجاذب الأضداد، على الساحة العراقية، خافياً، ذلك إذا علمنا أن هناك مَنْ أدمن المعارضة أو المقاومة، وليس لديه ما يبرر وجوده سواها من فنون وعلوم، فهي السهل التطبيق، لا تحتاج سوى الشعار، وتكثيف فضائح الخصم، صدقاً وكذباً، والهدم بفأس حادة. أقول هنا بعد تبريد العواطف، إن صحت العبارة: ليس كل ما ورد في جرائد وصحف ووسائل إعلامنا، نحن المعارضة السابقة، كان صحيحاً خاليا من الأكاذيب والمبالغات، وليس كل ما فعله خصمنا، النِّظام السابق، كان موبقاً! إن فعل المعارضة عادةً فعل تشهيري، وهذا ما ترتكبه الجهات التي تعارض أو تقاوم النَّظام الحالي! مع الفارق بين النِّظامين، ذاك كان منفرداً بالسلطة والدولة وأرواح العباد وثروات البلاد، بينما الفاسدون من هؤلاء محاصرون بفسادهم، يتساقطون بأصوات النَّاس، وحشرهم بقفص الاتهام لا يحتاج إلى جيوش غازية، فكم حاول رئيس الوزراء حماية ابن جلدته الحزبية من إشهار تهمة الفساد ضده، لكنه لم يتمكن بل أُخذ بها، وقس على ذلك! كان الجدل، خلال السبعة أعوام، محتدماً بين الاحتلال والتحرير، ويُراد له البقاء هكذا، فما أن صحا المالكي على ما لم يكن متوقعاً، من فوز القائمة العراقية، حتى هدد بمقاومة النِّظام السابق، بجيش وشرطة تحت أمرته، وبعد الاستغناء عن الأميركان مثلما يتوهم، ففي وجود العدو السابق حياً عذر له بالتجاوز على الديمقراطية التي أتت بغيره، فوصم القائمة الفائزة بالبعثية وتصنيفها بالسُنَّية، إنه التشبه بالنَّظام الخصم، مع اختلاف العبارات. كم من ضحية استعارت جلد جلادها بعد التمكن!