انطوت نتائج الانتخابات العراقية وتداعياتها على مفارقات عديدة وتناقضات بدا بعضها للوهلة الأولى غريباً، غير أني أود أن أركز على "خيمة طهران"، وهو التعبير الذي استخدم لوصف هرولة قادة الكتل السياسية العراقية الكبرى وفقاً لنتائج الانتخابات إلى طهران عقب إعلان هذه النتائج مباشرة. مضمون زيارات هؤلاء القادة لطهران واضح، فهم يتحدثون فيها ومعها عن أخص خصائص الشؤون الداخلية العراقية. هم يتحدثون من ناحية عن وجهة العراق في سنوات مقبلة وكيف تكون، وقد يكونون بحاجة إلى المشورة الإيرانية، أو إلى التوجيه من طهران التي صارت بصماتها على ما يجري في العراق أوضح من أن تخفى، لكن ذهابهم ينطوي بالتأكيد على تسليم بأن لإيران ما لها من نفوذ في الساحة العراقية. غير أن للشكل أيضاً دلالته، فالحاجة إلى استشارة طهران يمكن أن تُلبَى في بغداد التي توجد فيها سفارة لطهران، ويستطيع هؤلاء القادة أن يحصلوا على ما يشاءون من مشورة، أثناء وجودهم بكامل احترامهم في بغداد، وحتى دون أن يزوروا السفارة الإيرانية، فللاتصالات من هذا النوع أساليبها التي لا تخفى على أحد، وتحفظ كرامة القائمين بها. لكن ثمة احتمالاً يتمثل في أن تكون طهران والقادة معاً قد أرادوا هذا الشكل. طهران لأنها بهذا توجه رسالة لخصومها في العراق والوطن العربي والولايات المتحدة بخصوص نفوذها في العراق. وقادة الكتل السياسية الكبرى في العراق قد يخشون على أنفسهم من استياء طهران، وربما يكون في هذا الحكم الأخير ظلم للبعض منهم، ولكن أقل ما تنطوي عليه زيارة هذا البعض لطهران هو تسليمه بنفوذها على مجريات الأمور في بغداد. الغريب بعد هذا كله أن تصدر تصريحات -يمكن بسهولة تصديقها ممن لا يعرف ملابسات الوضع في العراق- من قبل رئيس الوزراء الحالي بأن حكومة العراق ستتشكل على أرض العراق، ووفقاً لما يريده الشعب العراقي، مع أنه وقيادات قائمته كانوا من أوائل المتوجهين إلى طهران. ولحسن الحظ فإن السيناريو المبسَّط الذي كان متوقعاً كتابته لمستقبل العراق في المدى القريب داخل "خيمة طهران" قد تعثر، فقد كان التصور الأولي أن يذهب قادة ائتلاف دولة القانون (بزعامة رئيس الوزراء الحالي) والائتلاف الوطني العراقي (الذي يقوده المجلس الإسلامي الأعلى بزعامة عمار الحكيم، ويضم التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر والذي حصل على أكبر عدد من المقاعد داخل الائتلاف)، والتحالف الكردستاني، وأن يتم التوفيق بينهم لتشكيل حكومة تتمتع بأغلبية برلمانية مريحة يكون رئيسها المالكي أو غيره، لكن الأمور بدت أعقد من ذلك بكثير بسبب التناقضات داخل هذا التحالف الشيعي الكبير، فثمة خصومة واضحة بين مقتدى الصدر والمالكي حيث يتهم الأول الثاني بنكث العهود، ومن ثم لا يمكنه الثقة به مرة أخرى رئيساً للوزراء، كما اعترض التيار على استبعاد "القائمة العراقية" من التشكيل الحكومي. وكذلك فعل عمار الحكيم الذي نفى عن "العراقية" غير مرة "شبهة" أن تكون بعثية بالمطلق. وعلى رغم أن هذا يمكن أن يحسب لقادة الائتلاف الوطني العراقي فإن دلالات "خيمة طهران" تبقى صحيحة. لكن أشد ما في الصورة بحق كان موقف قادة "العراقية" نفسها، التي دخلت الانتخابات على أساس "مشروع تغيير"، ويكفي أنها رفضت أن تبني قاعدة قوتها على أساس طائفي، فزعيمها شيعي علماني، ومعظم أنصاره من السُّنة، بالإضافة إلى تحقيقه اختراقاً في عدد من المحافظات ذات الأغلبية الشيعية. بل لعل واحداً من أهم أبعاد هذا التغيير المنتظر قد تمثل في التوجه الخارجي لـ"العراقية" الذي أكد على أهمية ربط العراق بعمقه العربي، وكانت زيارات علاوي لعدد من قادة العرب البارزين قبل الانتخابات علامة تأكيد لهذا التوجه وُجه له بسببها نقد مرير داخل العراق من قبل القوى المناوئة للعروبة، وكأن فعل إيران جائز وما يمكن أن يفعله العرب غير جائز. بل لقد نُسب لأحد القيادات السُّنية البارزة في "العراقية" مطلبه في المرحلة القادمة برئيس عربي للعراق وليس كردياً. ولذلك كان منطقياً أن يهاجم علاوي هرولة قادة الكتل السياسية العراقية الكبرى إلى طهران قائلاً: "إيران أصبحت اليوم تتدخل بكل تفاصيل الحياة في العراق، وتريد أن تفرض علينا ما تشاء من أسماء وصيغ وأوضاع" مردفاً: "لا إيران ولا غيرها تستطيع أن تفرض علينا ما لا نريد"، وعبر عن أسفه لاستمرار تجاهل المحيط العربي: "أصبح السفر شرقاً أهم بكثير من الذهاب غرباً أو جنوباً أو شمالاً، وأصبح الآن التوجه إلى إيران أهم من أن يذهب أحد إلى الشقيق العربي". لكن الضغوط فيما يبدو كانت عاتية، والنفوذ الإيراني في الساحة العراقية أقوى، فوجدنا مصادر قيادية في "العراقية" تعرب عن استعدادها لزيارة طهران "إن تلقت دعوة"، وتحاول أن تجد لنفسها صيغة لا تريق ماء الوجه بأن تضع الزيارة في سياق جولة عربية. وهكذا فقدت "العراقية" مبكراً واحداً من أهم مبررات وجودها، وهو مشروع التغيير الذي ادعت طرحه، والذي لاشك أن بعضاً من أبعاده يتصل بتصحيح توجه العراق الخارجي، وبدا أن قادة "العراقية" لا يدركون أنهم يقوضون بذلك شرعيتهم بأيديهم. أين العرب من هذا كله؟ اكتفت قمة سرت في بيانها الختامي بالترحيب بإجراء الانتخابات، والإعراب عن الأمل في أنها ستساهم في صيانة الهوية العربية والإسلامية للعراق، وبدعوة كافة القيادات العراقية إلى تغليب المصلحة الوطنية ووضعها فوق كل اعتبار، وقد يقال بالإضافة لذلك إن وفوداً عراقية ذهبت إلى دمشق أيضاً، وإن ثمة تخطيطاً لزيارات للرياض، وإن أحداً لا يدري ما يجري وراء الكواليس التي قد تخفي دوراً عربياً معتبراً، لكن الصورة أوضح من أن تموه معالمها: فلابد من طهران وإن أجريت الانتخابات.