كل الأمم تواجهها التحديات المختلفة، لكنها تعالج تلك التحديات والمشاكل عبر وضع سُلم أولويات الحلول عبر طريقة الأهم فالمهم؛ تفشي مرضٍ مُعدٍ -مثلاً- ومن ثم الوقاية منه ومكافحته، يتصدر اهتمامات هذه الأمة أو تلك، ولن يكون حاضراً في الأذهان حينها سواه، والوقت الصحي العصيب يتصدر الاجتماعات المكثفة ودراسة التقارير المتوالية والواردة عن انتشار الوباء. لن يكون حاضراً بكل تأكيد الحديث عن مشاريع بناء المدارس أو المساجد أو ملاعب الكرة. وعندما تبدو في الأفق نُذر الحرب وغزو بلد (ما) من قِبل أمة أخرى فلن يكون في ساحة المعالجات الفورية سوى تقوية الجبهة الداخلية وتعزيز قدرات الجيش والمقاومة الشعبية وإعلام الناس بالمخاطر المحدقة، وستتوارى -بلاشك- والأمر كذلك خطط التوسع الزراعي وبناء المصانع والتوسع الفندقي والاكتتابات في بنوك جديدة. إقليمنا الخليجي أمامه تحديات ضخمة: اقتصادية وسياسية وأمنية واجتماعية وسكانية، وكل هذه المصاعب يمكن حلها والتحايل عليها أو جعل عامل الوقت لاعباً يساندنا في مباريات التحديات تلك، ولكن تحدياً واحداً أشارت إليه التقارير الأممية الأخيرة لا يمكن أن تؤجل خطط مجابهته، لأن المسألة تتعلق إما بالحياة أو الموت، ولا حل غير ذلك... إنه تحدي المياه والعطش! المنطقة الخليجية تعيش في حيز جغرافي يعتبر من أجف أماكن الكرة الأرضية على الإطلاق، المطر في أفضل السنوات لا تتعدى نسبة هطوله 80 ملم، وفي أيام معدودة، ويتصارع عبثاً قبل أن يسقي الأرض ويملأ الآبار السطحية مع شمسنا الـمُحرقة التي تُبخر أكثر تجمعاته المائية الشحيحة. المنطقة الخليجية تعيش كذلك نهضة عمرانية وتضخماً سكانيّاً وزيادة غير مسبوقة في عدد المواليد، وتعاظماً للفئات الشابة بين سكانها، وهي من خلال ذلك مطالبة ببناء المدن الجديدة بمختلف مسمياتها، مع ما يلحق ذلك من زيادة في استهلاك مياه الشفة أو المياه المخصصة للاستعمالات الصناعية والعمرانية والسياحية الأخرى. إنه التحدي المزدوج والمخاطر المتشعبة ذات الصعوبة في الحل، ما لم يكن في ذهن صُناع القرار في خليجنا العربي، ما يطمئن القلوب الوجلة مما تسمعه وتشاهده وتحسه في كل صيف.. بل في كل وقت. لنأخذ مثالاً على ما نقول: قبل عشرة أيام تقريباً نشرت الصحف السعودية تقارير عن بعثة خبراء ألمان تعاقدت معهم الجهات المختصة في المملكة لدراسة سُبل إيجاد مصادر مياه في الربع الخالي، هذه البعثة وهي لا تزال مستمرة في بحثها قالت إن وضع المياه حول مدينة الرياض -والعاصمة بالذات- يشارف على النهاية غير السعيدة، فبعد ثلاثين عاماً -حسب كلام الخبراء الألمان- لن يكون في مقدور أي بئر مياه عميقة في المنطقة المذكورة ضخ جالون واحد من المياه، وقال هؤلاء الخبراء إن معدل استهلاك المياه في المملكة العربية السعودية عموماً أمرٌ لا يُصدق، وكأن البشر يعيشون في مناطق الغابات السوداء في ألمانيا والنمسا! هذا الكلام هو مثالٌ على ما يمكن أن يواجه المنطقة عموماً، فنهضتنا الاقتصادية والعمرانية والصناعية وما سُميت بالزراعية في الخليج والجزيرة العربية استهلكت في خمسين عاماً ما جُمع خلال عشرة ملايين سنة مطيرة مرت على هذه المنطقة في أزمنة سحيقة مضت. هل يمكن أن تظل قلوبنا تخفق وهذه الأرقام الصادمة التي لا تكذب "تبشرنا" بالقادم؟ أمرٌ آخر شديد الخطورة!! كل محطات التحلية في الخليج العربي والمقامة كذلك على سواحل البحر الأحمر في المملكة العربية السعودية والتي تمثل 50 في المئة من صناعة التحلية في العالم، هي من نوع المحطات القديمة وستصل إلى نهايتها عما قريب، والخليج العربي عموماً مطالب بأن يضع 100 مليار دولار تقريباً لتجديد شباب المحطات القديمة وبناء محطات جديدة خلال العشر سنوات القادمة، وهذه الأرقام تتبعها أرقام أخرى للصيانة وتكاليف إيصال المياه إلى مناطق بعيدة وبسعر زهيد غير اقتصادي يكلف الميزانيات الخليجية مليارات من الدولارات الأخرى. والوضع هكذا من الخطورة على الإنسان وما يبنيه ويُقيمه في الخليج لابد أن يتم تداركه؛ هيئات طوارئ للمياه في دولنا الخليجية مقترح لن يكون من الصعوبة مناقشته وإقراره، وتقارير الخبراء ترد تباعاً للمسؤولين وللمواطنين محذرةً ومنبهة. هذه الهيئات يجب أن تُربط مباشرة بصُناع القرار وتتخطى كل بطء الجهاز الحكومي البيروقراطي، وعليها أن تقدم لصناع القرار الصورة كما هي، وليس كما نحب أن تكون دائماً، وعليها أن تضع الحلول الآنية أو التي تتعلق بالمدى المتوسط والطويل، وعليها أن تركز على إقامة صناعة لمحطات التحلية وقطع الغيار وتدريب شبابنا على إدارة هذه المصانع والمحطات المراد إنشاؤها. استنباط طرق جديدة لمعالجة المياه المالحة اقتصادياً وآمنة بيئياً هي من أولى الأفكار التي لابد أن تُطرح أمام هيئات طوارئ المياه المفترضة، التي يجب اعتبارها سيادية مثل وزارات الخارجية والدفاع والأمن، فعن ماذا يمكن أن يصارع سياسياً وعسكرياً وأمنياً وأحد الأطراف يموت عطشاً؟! الخبراء الذين يأتون إلينا يجب ألا يؤخذ كلامهم المرسل على أنه شيء علمي قاطع، وخاصةً في المسألة الجيولوجية، أعني هنا أن على من يتعاطى مع مسألة ندرة المياه وخطورة الوضع المائي، أن يستقدم خبراء من عدة جهات دولية ومدارس علمية مختلفة، لتتم المقارنة والمطابقة بعد عمليات التحليل العلمي، فلقد أشار بعض الباحثين الذين قدِموا قبل ثلاثين عاماً إلى أن المملكة العربية السعودية قادرة على ضخ مياه من تحت سطح الأرض إلى زراعتنا الفتية -حينها- وبما يعادل ضخ مياه النيل في البحر المتوسط لمدة 500 عام، ليصدمنا الواقع المائي بعد ذلك بما يجعل الإنسان يشك في التوجه الأحادي لمثل هذه البعثات! هناك أيضاً مسألة التوسع العمراني والاقتصادي والزراعي، كل هذا الحراك البشري وما يتعلق به لابد من إعادة النظر فيه بصورة كلية، لماذا تُعطى -مثلاً- تراخيص جديدة لصناعة الألبان ولتر واحد من الحليب يكلف استهلاك 400 لتر من المياه؟! علينا بدلاً من ذلك أن نقلص خطط توسع الصناعات المقامة المشابهة إلى أقصى مدى. إعادة تدوير المياه الآسنة وغير الصالحة للاستعمال الآدمي لتصبح مياهاً نظيفة وبالإمكان التعامل معها بأشكال مختلفة واجبٌ على هيئة الأزمات المائية المزمع إنشاؤها، فمدينة خليجية ستستهلك من المياه -حسب آخر التقارير - 1200000 متر مكعب، تستوعب كل محطات التكرير فيها ما مجموعه 600 ألف متر كعب يومياً فقط.. أين يذهب الباقي؟ إنه يكون أودية لمياه قذرة تنساح في الأرض الرملية التي تشرب المياه شرباً ثم لا تُبقي له أثراً! تبقى مسألة حساسة وتتعلق بالمعتقد والرؤية الدينية للحياة والإنسان، إننا نعني (تنظيم) الإنجاب وتقليل أعداد أفراد الأسر في الخليج، فكل فمٍ جديد يعني استهلاك مياه جديدة نادرة أصلاً، إلى غير ذلك من أنواع الاستهلاك والرعاية، نحن لا نقول بحرمان الناس من الإنجاب أو المزاحمة في الإفتاء في هذا المجال، ولا نشكك في الأحاديث النبوية الشريفة التي طالبت بزيادة -أظنها بالكيف- للأمة الإسلامية، لكننا نقول إن رزق طفلين -أو ثلاثة- للأسرة الواحدة أفضل من ذُرية عطشى تشمل أكثر من هذا العدد، علينا أن نفكر بإيجاد حوافز لمن ينجب أقل وليس أكثر في بلدان خليجية، والعكس صحيح في بلدان أخرى خليجية يشكل المواطنون فيها أقلية.. وهكذا. الأمر جدُّ خطير وتحدٍّ هو الأضخم والأهم يواجه المنطقة وصُناع القرار هنا.. وكل الناس.