تحيي منظمة الصحة العالمية بعد غد الأربعاء فعاليات يوم الصحة العالمي، الذي يحل كل عام في السابع من شهر أبريل. وكعادة المنظمة في اختيار هذا اليوم للتركيز على قضية صحية عامة، وزيادة إدراك الوعي الشعبي والرسمي بها، اختارت المنظمة احتفالات هذا العام لتسليط الأضواء على قضية تأثير التمدين -أو الحياة في المدن- على صحة الأفراد والمجتمع ككل. فتحت شعار "ألف مدينة وألف حياة" تخطط المنظمة لإطلاق حملة دولية من الفعاليات، على مدار أسبوع كامل، تدور حول محورين رئيسيين. المحور الأول، أو محور الألف مدينة، يهدف إلى زيادة المساحات المتاحة من الأماكن العامة لغرض تدعيم النشاطات الصحية المختلفة، سواء كانت هذه الأماكن حدائق لغرض ممارسة الرياضات المختلفة، أو مباني عامة لغرض تثقيف الجمهور صحياً، أو تنظيف الأرصفة والشوارع وإزالة ما قد تحمله في طياتها من مخاطر صحية، أو ربما حتى إغلاق أجزاء من المدينة وقصر استخدامها على المشاة، لخفض الناتج من عوادم السيارات، وتشجيع الأفراد على ممارسة المشي لقضاء احتياجاتهم اليومية. أما المحور الثاني، أو محور الألف حياة، فيهدف لجمع ألف قصة لأشخاص بذلوا جهوداً، تركت أثراً ملموساً في تحسين الظروف الصحية المعيشية للأفراد القاطنين في مدنهم. ويأتي اختيار منظمة الصحة العالمية لهذه القضية غير الاعتيادية، على خلفية الدراسات والإحصائيات التي تشير إلى أن نصف أفراد الجنس البشري يعيشون حاليّاً في مدن ومناطق مدنية كبرى. ومما سيزيد الموقف تفاقماً تواتر التوقعات بأن الزيادة المتوقعة في عدد أفراد الجنس البشري خلال العقود الثلاثة القادمة، سيكون معظمها بين سكان المدن. وهو ما يعني أنه بحلول نصف القرن الحادي والعشرين، ستكون الغالبية من البشر قد هجرت المناطق الريفية، والنائية، وأصبحت في عداد (المتمدينين). ومثل هذا التحول الديموغرافي، الذي بدأ بالفعل قبل زمن ليس بالقصير، يحمل في طياته تحديات ومخاطر صحية كثيرة، تتعلق بتوفر إمدادات مياه الشرب النظيفة، وحجم التأثيرات السلبية على عناصر البيئة الطبيعية داخل المدن والمناطق المجاورة لها، وكذلك زيادة حوادث العنف ومعدلات الإصابات البدنية لأسباب مختلفة. وتكتسي أيضاً الحياة داخل المدينة أهمية صحية خاصة، بسبب انتشار عوامل الخطر المؤهلة للإصابة بالأمراض غير المعدية، مثل العادات الغذائية السيئة، وزيادة معدلات استهلاك التبغ والكحوليات، ومحدودية النشاط البدني والرياضي، وهي عوامل معروف عنها تسببها في الإصابة بالسمنة، وداء السكري، وأمراض القلب والشرايين، كالذبحة الصدرية، والسكتة الدماغية، وارتفاع نسبة الوفيات المبكرة بوجه عام. وتتشابه هذه الأمراض إلى حد كبير، مع ما أصبح يعرف في عالم الطب بأمراض الثراء أو أمراض الأغنياء، التي تضم -بالإضافة إلى ما سبق ذكره- أمراضاً أخرى، مثل الأمراض السرطانية، وارتفاع ضغط الدم، وأمراض المناعة الذاتية، والربو الشعبي، وإدمان الكحوليات، والاكتئاب، وطيفاً آخر من الأمراض النفسية. وتتشابك العلاقة بين بعض تلك الأمراض، بحيث يصبح بعضها سبباً أو نتيجة لبعض آخر مثل السمنة التي تنتج جراء الإصابة ببعض الأمراض، وتتسبب هي نفسها في مجموعة أخرى. وتتميز جميع أمراض الثراء -أو أمراض التمدين- بميزة أساسية، هي كونها أمراضاً غير معدية، أي أنها لا تنتقل من شخص إلى آخر، وإن كانت غالباً ما تصيب شريحة كبيرة من أفراد المجتمع. هذا على عكس أمراض الفقراء، التي غالباً ما تكون أمراضاً مُعدية تنتقل عن طريق الجراثيم والميكروبات من شخص إلى آخر، نتيجة انخفاض مستوى الصحة العامة، وتدهور مستوى الصحة البيئية. والملاحظ أن الاتجاه الحالي هو نحو تفاقم أمراض الثراء، وخصوصاً في الدول الصناعية بسبب زيادة متوسط العمر والاعتماد على تقنيات الرفاهية بشكل أكبر، وزيادة أعداد قاطني المدن. وإن كانت أمراض التمديُن تختلف عن أمراض الأغنياء، في كون عبئها الأكبر يقع في الواقع على كاهل الفقراء من سكان المدن، الذين بالإضافة لإصابتهم بأمراض الأغنياء بسبب حياتهم في المدن، نجد أنهم أيضاً أكثر عرضة لقائمة أطول وأكثر تنوعاً من الأمراض، مثل الأمراض المزمنة، والإصابات البدنية الناتجة عن العنف، وبعض الأمراض المعدية الخطيرة كالسل والإيدز وإدمان المخدرات والكحوليات. والمؤسف أن القوى الرئيسية، والمحددات الاجتماعية، خلف هذا الوضع الصحي السلبي للحياة في المدن وخصوصاً بين فقرائها مثل تطور وكفاءة البنية التحتية، وتوزيع الدخل، والمساواة في فرص التعليم والتوظيف، تعتبر في غالبيتها عوامل تخرج عن نطاق نشاطات وسلطات نظم الرعاية الصحية، مما يجعل محاولات الاعتماد على هذه النظم في مواجهة الوضع الصحي داخل المدن، محاولات فاشلة في غالبيتها. وفي الوقت نفسه نجد أن مجالاً آخر مثل مجال التخطيط العمراني أو تخطيط المدن، يمكنه أن يساهم بشكل أكبر وأكثر فعالية في مواجهة المشاكل الصحية لقاطني المدن، من خلال توفير الأماكن العامة لممارسة النشاط البدني، أو الاستثمار في وسائل النقل العامة مما يشجع على ممارسة السلوكيات الصحية، الأكثر أمناً في الوقت ذاته. ويمكن أيضاً لمجال الممارسات الحكومية المتعلقة بحجم الاستثمارات في البنية التحتية مثل توفير مياه الشرب النظيفة ونظم الصرف الصحي الفعالة، أو إصدار التشريعات الكفيلة بالحد من استخدام التبغ، أو رفع مستوى النظافة والسلامة في قطاع المطاعم والصناعات الغذائية، أن يحقق تحولاً ملموسا في رفع مستوى البيئة الصحية التي يتوقع أن تعيشها الغالبية من أفراد الجنس البشري في السنوات والعقود القريبة المقبلة.