تثير اهتمامي تلك الأبحاث والدراسات الخاصة بالتعليم وما يتعلق بشأن التربية، والسبب هو أهمية نتائجها في تشكيل عقل الأمة ومسيرتها التنموية والحضارية والعلمية. فالتعليم هو جوهر النهضة والنواة الأساسية لصناعة التقدم، ذلك أن الصلة بين التعليم وآلية التنمية والتقدم صلة وثيقة جداً، وهو ما يتضح في تصدره قائمة الأولويات التنموية والاستراتيجية للدول، خاصة حين تشعر أنها تأخرت عن غيرها أو تدهور مستوى تنافسها الصناعي أو التعليمي أو الحضاري، لإدراكها ضرورة تطوير هذا السلاح الذي يمثل أمناً قومياً للدول والأمم. والثابت علمياً أن المعلم هو أهم أعمدة التعليم التي تتكون من السياسة التعليمية، والمنهاج، والكتاب المدرسي، والطالب، والمدرسة، والبيئة التعليمية، لكن يبقى جوهر النجاح في العملية التعليمية هو المعلم الناجح. ومن يريد أن يحقق النجاح لسياسته التعليمية، عليه أن يهتم أولاً بالمعلم؛ أن يختاره بدقة وعناية، أن يؤهله ويعده الإعداد المناسب... فهو محور العملية التعليمية والقوة الفكرية التي تتصل بفكر الطالب ونفسيته وسلوكه وعقيدته وثقافته وعاطفته. هو نقطة الانطلاق نحو إحداث قوة حقيقية في مجال التعليم والاقتصاد والتنمية عامة، وأي نقص قد يحدث في طريق اختيار المعلم أو إعداده أو تأهيله سوف يكون له تأثيره السلبي على مجمل العملية التعليمية، حتى ولو كانت سياسة التعليم في أحسن حالاتها. ومن أجل ذلك تولي الدول الصناعية عناية فائقة بالمعلم؛ ففي اليابان مثلاً ثمة اهتمام غير عادي بالمعلم؛ فهو لا يدخل مهنة التدريس إلا بعد أن يجتاز الكثير من الامتحانات قبل الوصول إلى امتحان القبول في المدرسة، حيث يحصل على إجازة الترخيص للتدريس. وما بين خمسة متقدمين يقبل واحد فقط، بينما يتعين على الباقين أن يمروا بتدريبات واختبارات كثيرة للحصول على هذا الترخيص. ويتميز المعلم الياباني بمستوى عالٍ من الإخلاص لمهنته، وهو يطور نفسه بنفسه خلال دورات وورش تكوين متقدمة. وفي أوروبا هناك عناية فائقة بالمعلم ومكانته الاجتماعية والمادية، وفي أميركا وجدت الأبحاث أن إنقاذ النظام التعليمي الأميركي يكمن في المعلم، حيث يوضح إيفان توماس وبات وينفرت في دراستهما المنشورة بمجلة "نيوزويك" 2010/3/23 تحت عنوان "الوسيلة الوحيدة لإنقاذ التعليم الأميركي"، أن الأمر الأكثر تأثيراً في التعليم، والأهم من حجم الصفوف، أو أنواع الكتب الدراسية، أو طريقة التعليم، أو التكنولوجيا، أو حتى المنهج التعليمي... هو نوعية المعلمين. وتشدد الدراسة على أهمية مهارات المعلمين وقدرتهم الفطرية على إلهام العقول اليافعة والسيطرة على الصفوف الفوضوية، قائلة إن الأطفال الذين يحظون بمعلمين أو ثلاثة أو أربعة أكفاء على التوالي، يتفوقون في النهاية مهما كانت خلفياتهم، في حين أن الأطفال الذين يتلقون التعليم على أيدي معلمين، بينهم اثنان فقط ضعيفان، لن يتمكنوا أبداً من تخطي تخلفهم. وفي دراسة أجراها مجموعة من الباحثين، اتضح أن زيادة الإنفاق على التعليم ليس كافياً لتحسين المستوى التعليمي، وحسب إريك هاتوشيك، أخصائي التعليم في معهد هوفر بجامعة ستانفورد، فإن السياسة الأكثر فعالية في التعليم تقضي بإيجاد معلمين جيدين، حيث إن التلاميذ الذين يدرسهم أسوأ 15 بالمئة من المعلمين لا يتحسنون إلا بنسبة 50 بالمئة، في حين أن تلاميذ أفضل المعلمين يحرزون تقدماً بنسبة 150 بالمئة. إن التعليم، حسب القول الياباني، هو ذلك السلم الذهبي الذي تصعد عليه للتربع على جبلٍ من الذهب. لكن لا وجود لهذا السلم بدون المعلم أولا.