حتى قبل انعقاد قمة سرت بأسابيع كان معظم الزعماء العرب والكثيرون من موظفي الجامعة العربية يشعرون بالقلق. لم أر مثل هذا القلق من قبل في القمم السابقة - التي وصل عددها الآن إلى اثنتين وعشرين - كان الشعور الأغلب هو بين الاهتمام المفرط أو التشاؤم، أما القلق فلم يكن له مكان كبير. لكن سبب القلق هذه المرة هو الخوف من شدة الإثارة. كان القلق في كواليس الجامعة العربية في القاهرة، هو أن يستمر القذافي في منهجه التجديدي، ويفاجأ زملاءه بغير المتوقع ليخلق واقعاً جديداً. فمثلاً في القمة الواحدة والعشرين في الدوحة في العام الماضي، وصل القذافي بعد بداية جلسة الافتتاح بخمس عشرة دقيقة، ليأخذ الميكروفون أثناء إلقاء أمير قطر خطبة الترحيب بمدعويه، ويصر على إلقاء كلمة. وما أن انتهى من كلمته المقاطعة لخطبة الافتتاح حتى غادر الجلسة لارتباطه بموعد لزيارة متحف في العاصمة القطرية، رجعت إلى الوثائق ووجدت فعلاً أن هذا ما حدث في العام الماضي. ومن استمراري في قراءة وثائق أخرى عن ليبيا خلال الأربعين عاماً الماضية، تشعر أن نظام الحكم الليبي يكره أكثر ما يكره رتابة الحياة والنمط الروتيني، ولذلك فهو في حالة تجديد دائم، قد تشعر بالقلق كثيراً من سرعة إعلان التجديد وخطواته المفاجئة، ولكنك لا تشعر إطلاقاً بالملل. ولكن هذه القمة الاثنتين والعشرين انتهت دون إثارة بالمرة، لاسيما على المستوى الدولي، بل وحتى بتجاهل تام كما رأيت في كل من فرنسا وأميركا. فقد تزامنت بداية القمة يوم السبت 27 مارس مع مغادرتي القاهرة، وعند وصولي فرنسا لم أجد أية أخبار عن القمة، وبررت هذا لنفسي بأن القمة لاتزال في حالة انعقاد. ولكن عند وصولي إلى أميركا غداة انتهاء القمة، لم تكن هناك أية مانشيتات عن هذه القمة والتي حضرها سكرتير عام الأمم المتحدة، وكذلك رئيس وزراء تركيا، أي أن القمة كانت في جزء منها دولية ولم تقتصر على الأطراف العربية، ومع ذلك كان التجاهل شبه تام، إلا من خبر صغير في الصفحات الداخلية، يؤكد أن المؤتمر يرفض بدء المفاوضات الفلسطينية مع إسرائيل في ظل استمرار إجراءات الاستيطان. بمجرد وصولي اتصل بي بعض الزملاء، لكي يعرفوا مزيدا من الأخبار، ولكني خيبت أملهم. وعندما رجعت إلى بيان القمة الختامي وبعض وثائقها الرسمية، لفت نظري حالة التردد التي سادت المجتمعين، فالتنديد والشجب مستمران، ولكن دون الخطوات المحددة التي تعطي هذا التنديد والشجب الفعالية المطلوبة. قيل إن هناك 27 بنداً يتم اتخاذ قرارات بصددها، ولكني أكثر ما رأيت هو سيطرة موضوع القدس والقضية الفلسطينية برمتها تماماً كما هو الحال منذ نشأة الجامعة العربية منذ 66 عاماً. رجعت إلى بعض قرارات القمة السابقة من القاهرة إلى تونس إلى الرياض إلى بيروت إلى دمشق إلى الدوحة، لأجد أن هذه "القضية المقدسة" يتم التأكيد عليها كل قمة، وحتى بنفس الكلمات، بينما الوضع على الأرض يسوء باستمرار. وتساءلت ألا يرى الزعماء وموظفو الجامعة هذا الترابط الغريب بين قوة كلماتهم من قمة إلى أخرى، وضعف النتائج في الواقع، ومن أسبوع إلى أسبوع. كان أهم انعكاس لحالة التردد والضياع هو قرار قمة سرت بعقد قمة أخرى - استثنائية هذه المرة - أي قرار بترحيل المشكلة بدلاً من مواجهتها، وحتى لو تم استفحالها. القرار الآخر الذي يلفت النظر هو التوجه الجديد نحو دول الجوار غير العربية. ظاهرياً يبدو هذا منطقياً، ففي زمن العولمة والسماوات المفتوحة، لا يمكن قبول الانغلاق، ولكن لا يبدو المشروع محدد المعالم، وفي حالة العجز التي يمر بها النظام العربي الرسمي حالياً، يبدو قرار الانفتاح على دول الجوار - سواء تركيا أو تشاد - تعبيراً عن حالة ضياع وضعف أكثر منه توجها مدروسا وخطة محكمة. خوفاً من "إثارة" غير متوقعة وحتى غير منضبطة، تغيب حوالي عشرة زعماء عن قمة سرت. ولكنهم يعرفون الآن أن "الإثارة" لم تحدث، وأن الجسم العربي الرسمي لايزال في غرفة العناية المركزة في انتظار صدمة كهربائية من نوع آخر - وقبل فوات الأوان.