مرة أخرى يصرخ العرب، طالبو السلام، أن عملية السلام فشلت، انتهت، ماتت... لكن قضيتهم ضاغطة، ملحة، وتتطلب استمرار التعامل معها بحثاً عن حل. ففلسطين تحت الظلم والاستبداد الإسرائيليين تعني اللااستقرار عربياً، إقليمياً، وحتى دولياً -باعتبار أن الجنرال بترايوس يرى أن تداعيات الوضع الفلسطيني تشكل خطراً على الجنود الأميركيين. وإذ تعرض الجنرال للوم إسرائيلي فإنه حاول التصحيح. غير أن ما ذهب إليه بات جزءاً من تحليل أميركي مكتوم لخط الأحداث بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية والحروب التي تبعتها، مع كل ما سبقها من تراث أميركي سلبي في التعامل مع العرب. قد تتفلت من هذا التحليل شذرات هنا وهناك، وقد يستقرأ في بعض توجهات إدارة أوباما، إلا أنه غير معدّ لمفاتحة العرب به، فقط يقوله أميركيون لأميركيين ويواصلون تطبيق سياساتهم كالمعتاد، كما لو أن كل شيء على ما يرام. عندما انخرط العرب في عملية السلام قبل عقدين ظنوا أن الإسرائيليين متلهفون ومستعجلون مثلهم. نسوا أن واشنطن اضطرت للتلويح بتهديد لإسرائيل كي تنخرط بدورها، وعندما فعلت ظنوا أنها ستلعب اللعبة بانضباط وأن "راعي" عملية السلام كفيل بزجرها كلما تلكأت أو وضعت عراقيل. لكن "الرعاية" تغيرت وضعفت، ونالت إسرائيل في ظلها مزيداً من التعهدات التي لا يمكن أن تسهّل السلام (وعد بوش) فراحت تضغط لجعل المواقف الأميركية تتماهى مع مواقفها، وها هي الآن في ظل خلاف واضح مع أوباما تتقلب بين فجور و"جنون"، وفقاً لكلمة فرقعها أردوجان في خطابه أمام قمة سرت. ليس معروفاً كيف ستفضي الأزمة الأميركية- الإسرائيلية إلى النهاية المتوخاة، أي استئناف المفاوضات وفقاً لجدول وسقف زمنيين محددين، وبناء على التزام إسرائيلي واضح بأن الهدف هو التوصل إلى حل نهائي. ولأن العرب خبروا "الالتزام" الإسرائيلي، فإنهم بدوا في سرت بلا أي أوهام أو آمال بالنسبة إلى عملية السلام، وحتى بالنسبة إلى قدرة أميركا على الصمود أمام تحدي الحليف الإسرائيلي. لذا كان هناك حديث عن البدائل. ليس بين البدائل سحب "المبادرة العربية"، وليس بينها التلويح بالعودة إلى الحرب، وليس بينها تبني نهج لمقاومة مسلحة. لا داعي للتفاجؤ ولا للذهول أو الإحباط، فهذه ليست المرة الأولى التي يبدون فيها بلا خيارات. لكن اللاخيار ليس خياراً، تماماً كما هو التهاون والهوان. كل البدائل المطروحة والمتصورة جرى تجريبها ولم تحدث أي اختراق أو تغيير. هذا عالم لا يفهم ولا يريد أن يفهم إلا بسياسة القوة. فمن ليست لديه قوة لا يخيف، وإذا لم يخِف فلا أحد سيجد الدافع لمراضاته، لا أحد يهتم. هذه من أقدم بديهيات الأرض، لكنها قاعدة عمل لا مفر منها. حسناً، فلنقل إن العرب لا يملكون القوة اللازمة، ومن دون العودة إلى بحث مستفيض في "موازين القوى" والشروط الموضوعة لمن يمكن أو لا يمكن أن يتفوق في الشرق الأوسط. فلنقل أيضاً إن الإصرار على السلام ربما لا يكون خطأ، طالما أن البديل الآخر، أي الحرب، ليس متاحاً. لكن الاتجاه إلى السلام لا ينبغي أن يعني أيضاً التجرد من قوة السياسة، بعد التجرد من سياسة القوة. أما قوة السياسة فتعني الالتزام. هناك قواعد سلوك كان ولا يزال ضرورياً تبنيها لدعم خيار السلام هذا. وأولى القواعد ألا يستنتج العالم أن هناك تذبذباً وتفاوتاً في مقاربة العرب لقضاياهم، وأنهم يتكلمون بعشرين لغة، وأن بعضهم مستعد للمساومة على الأساسيات، والآخر متهافت، والثالث يقايض مصالحه بشيء من التزاماته إزاء ما لا تزال "قضية العرب الأولى"، حتى صحت ملاحظة الرئيس الليبي "إننا هنا (في القمة) نتخذ قرارات لكن كل واحد يعمل بما يراه مناسباً". لا شك أن التحركات الدبلوماسية تشكل الجانب الأبرز من "البدائل" الممكنة، وكذلك دعم صمود الشعب الفلسطيني، لكن يبدو أن هناك حاجة إلى وسائل وأساليب لا يعرفها سوى المجتمع المدني لتزخيمها وجعلها في الواجهة... وعلى افتراض أن هذه بدائل، يبقى أن البديل الوحيد -المفقود إلى غير رجعة- هو إمكان استعادة التضامن والالتزام لتفعيل قوة السياسة ما دامت القوة الأخرى متعذرة وممنوعة.