هنالك موضوعان يطغيان على الساحة العربية الآن: الأول نتائج الانتخابات العراقية والمخاوف من تداعياتها على المشهد الأمني والسياسي العراقي والإقليمي. والثاني القمة العربية الثانية والعشرين في سرت، التي تستضيفها للمرة الأولى ليبيا ويرأسها القذافي. هذا إضافة إلى الشأن الحاضر دائماً وأبداً وهو الشأن الفلسطيني وعملية السلام التي تفرض نفسها، مرة أخرى، على القمة كبند أساسي. ومع تعيين العرب أخيراً لمفوض عام للقدس وتخصيص 500 مليون دولار لدعمها، في الذكرى الثامنة لإطلاق المبادرة العربية، يبرز بعض العرب والفلسطينيين مطالباً بسحب تلك المبادرة العربية التي قدمت في قمة بيروت عام 2002، بحجة انتهاء صلاحيتها. وفي هذا الوقت تستمر الخلافات العربية، وتضغط استحقاقات اللحظة الكثيرة التي يتقدمها طبعاً التعثر الكامل لعملية السلام بسبب الضعف العربي وعدم وجود بديل لمبادرة السلام كخيار استراتيجي في وجه التعنت الإسرائيلي. وعلى رغم عاصفة نشوب أكبر أزمة سياسية بين تل أبيب وواشنطن، وفي ظل الخلافات العلنية الواضحة بينهما، في هذا الوقت يبقى الطرف العربي بشكل عام، والفلسطيني بشكل خاص، كعادته غير متماسك، وفاقداً للتوازن والموقف الجماعي. ونفشل مجدداً في الاستفادة من الخلاف غير المسبوق بين الحليفين الاستراتيجيين اللذين لطالما تحالفا ونسقا معاً لمصلحتهما الخاصة، على حساب مصالحنا وأمننا واستقرارنا. ومن الملفت أننا لم نقرأ جيداً حتى الآن فشل الرهان الإسرائيلي على ضعف ووهن أوباما، والإخفاق في محاصرته من قبل تل أبيب وحلفائها في اللوبي الإسرائيلي، بسبب القوة التي اكتسبها الرئيس الأميركي من نجاحه الباهر في تمرير قانون الرعاية الصحية الذي كان يعارضه خصومه "الجمهوريون" وحتى بعض المحافظين من داخل حزبه من "الديمقراطيين" المتخوفين من خسارة مقاعدهم في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر القادم. ولذا راهن خصوم أميركا، وحتى حلفاؤها مثل إسرائيل، على فشل تمرير قانون الرعاية الصحية متصورين أن ذلك سيقوض ما تبقى من قوة لأوباما، وأنه سيجعله ينكفئ على الشأن الداخلي ولا يواجه التحديات الخارجية، مما يُطلق رصاصة الرحمة على قوة اندفاع الرئيس الضعيف الذي سيتحول مبكراً، وفق هذا التصور، وحسب المصطلح الأميركي المشهور إلى "بطة عرجاء"، وبالتالي لا يكون رئيساً إلا لفترة واحدة. ولكن أوباما فاجأ الجميع وانتصر، وتصدى لبلطجة نتنياهو داخل البيت الأبيض وحرمه حتى من التقاط صور الكاميرات المعتادة. وأصر أيضاً على مواقفه الرافضة للاستيطان الإسرائيلي في القدس، مستقويّاً بتذمر المؤسسة العسكرية الأميركية النافذة التي تنتقد الآن التعنت الإسرائيلي وتحمِّل تل أبيب مسؤولية تهديد المصالح الأميركية وتكثيف المخاطر على حياة الجنود الأميركيين في "مسارح العمليات العسكرية" في المنطقة. ومن المعروف أن المؤسسة العسكرية الأميركية هي أقوى "لوبي" في واشنطن، وأهم بكثير من اللوبي الإسرائيلي النافذ في أميركا. والراهن أن قوة الدفع التي حصل عليها أوباما من نجاحه في تمرير قانون الرعاية الصحية على رغم التحدي الكبير من قبل الجماعات المناوئة لسياساته داخل النظام السياسي الأميركي، لاشك أنها ستعزز موقف إدارته ليس في الداخل الأميركي فحسب، بل وفي الشؤون الخارجية أيضاً، وخاصة في طريقة التعامل مع الشأنين الإسرائيلي والإيراني، وكيفية إدارة علاقة أميركا مع روسيا والصين أيضاً. وسيعيد أوباما كذلك ترتيب أولوياته مجدداً، فبعدما أعطى جل وقته للشأن الداخلي الاقتصادي والمالي ومسألة الرعاية الصحية، سيعود الآن ويولي الشأن الخارجي وتحدياته الوقت والجهد المطلوبين. وكان واضحاً أصلاً إصرار أوباما على التصدي للبلطجة والابتزاز من طرف نتنياهو داخل البيت الأبيض في لقائهما الأسبوع الماضي، ولم يأبه بفشل زيارة نتنياهو لواشنطن، ووجه له لطمة أميركية رداً على اللطمة التي وجهتها تل أبيب له شخصياً ولنائبه ولإدارته بالإصرار على بناء المستوطنات، وبالحديث أن "القدس ليست مستوطنة بل هي عاصمة إسرائيل". وفي المجمل فإن أوباما المنتشي بانتصاره الكبير المُستحق ستسمح له قوة الدفع الراهنة بأن يلتحم بقوة مع التحديات، ويصوغ سياسة خارجية أكثر جرأة وحزماً من هنا وحتى موعد انتخابات التجديد النصفي. وعلينا كعرب أن نقرأ هذه المتغيرات المهمة في المشهد الأميركي، ونتعامل معها بذكاء وحكمة في أعقاب القمة العربية. فهل نملك استراتيجية تستثمر وتوظف ذلك؟! هذا هو السؤال.