قبل أيّام قليلة، وتحديداً في 17 مارس، صدرت صحيفتان بريطانيّتان رئيسيّتان، بل عالميّتان، وكان لموضوع العلاقات الأميركيّة- الإسرائيليّة أن استرعى انتباههما. لكنّ الافتتاحيّتين اللتين نشرتهما الصحيفتان تذهب كلّ منهما في اتّجاه مخالف جذريّاً لاتّجاه الصحيفة الأخرى. فـ"الفايننشيال تايمز"، المعروفة بتمثيلها للمصالح الرأسماليّة البريطانيّة التي تأوْربت وتعولمت، كتبت أنّ "أوباما ينبغي أن يكون متشدّداً مع إسرائيل"، وقد جاء في افتتاحيّتها ما يلي: " لدى السياسيّين الإسرائيليّين ميل لاعتبار الدعم الذي تقدّمه لهم الولايات المتّحدة تحصيل حاصل. في الأسبوع الماضي أجازت الحكومة اليمينيّة القوميّة لبنيامين نتنياهو بناء 1600 بيت جديد في القدس الشرقيّة. لقد فعلت هذا فيما كان نائب الرئيس الأميركيّ جو بايدن يزور البلد، وذلك بغضّ النظر عن معارضة الإدارة الأميركيّة للبناء الجديد. تأتي هذه الإهانة في وقت بدأ معه الاستراتيجيّون العسكريّون الأميركيّون يسائلون قيمة إسرائيل كحليف". وتمضي افتتاحيّة "الفايننشيال تايمز" المرتفعة النبرة: "على البيت الأبيض أن يصلّب موقفه من السلام. فبناء المستوطنات ليس مجرّد استفزاز محلّيّ، بل هو أيضاً يجعل إمكانيّة السلام أبعد. ذاك أنّ حلّ الدولتين القابلتين للحياة ينبغي أن يحمل إسرائيل على التخلّي عن الأرض. أما الطريقة التي استعمرت بموجبها إسرائيل الأرض، بشكل منهجيّ وغير قانونيّ، فتجعل التوصّل إلى دولة فلسطينيّة، تكون عاصمتها في القدس الشرقيّة، أمراً مستحيل البلوغ". وفي المقابل تماماً، حذّرت افتتاحيّة "الديلي تلجراف" اليمينيّة المحافظة والمنكّهة يمينيّتها بنكهة صهيونيّة، من "مخاطر" الخلاف الأميركيّ مع إسرائيل، ورأت أنّ "الولايات المتّحدة لا تتحمّل تجاهل الحقيقة القائلة إنّ إسرائيل تبقى حليفاً مهمّاً في الشرق الأوسط". وهي قرأت الأحداث نفسها التي قرأتها "الفايننشيال تايمز" على نحو مغاير تماماً. ذاك أنّ نتنياهو "سارع إلى الاعتذار للسيّد بايدن عن كلّ إساءة أو إحراج قد يتسبّب بهما الإعلان [أي بناء الوحدات السكنيّة الاستيطانيّة]"، ومع هذا فإنّ "واشنطن رفضت أنّ تهدّئ الأمور وتخفّفها". نحن، إذن، أمام صحيفتين بريطانيّتين، محسوبتين على "اليمين"، تعلّقان في يوم واحد على حدث واحد، ومع هذا فإنّهما تختلفان إلى هذا الحدّ!. القصد من إيراد هاتين العيّنتين ليس إجراء مقارنة بين الجريدتين، ولا الكتابة عن الخلاف الأميركيّ- الإسرائيليّ أو الموضوع الفلسطينيّ- الإسرائيليّ، بل هو التالي: إنّ مصطلح "الغرب" الذي نستخدمه، نحن العرب، بسبب وبلا سبب، مصطلح لا معنى له. صحيح أنّ هناك قواسم مشتركة جامعة بين معظم القوى الحيّة والفاعلة في المجتمعات الغربيّة، شأن الحداثة والعقلانيّة وعلمنة الحياة العامّة، بيد أنّ افتراض الوحدة في مواقف الغربيّين حيال القضايا السياسيّة والثقافيّة التي يتناولونها هو افتراض أقرب إلى الوهم. ذاك أنّ ما لا يُنتبَه إليه عندنا أنّ التعدّديّة هي الأخرى واحدة من القواسم الثقافيّة المشتركة بين الغربيّين. إلاّ أن هذا القاسم المشترك هو نفسه الذي يؤسّس لاختلاف النظر والنظرة في ما بينهم. ما الذي يترتّب على هذه الحقيقة البارزة؟ لا شكّ أنّ الخلافات التي تنشأ، بين وقت وآخر، بين الولايات المتّحدة وبلدان أوروبا، أو بين بلد أوروبيّ وآخر، دليل بالغ الوضوح على أنّ "الغرب" المزعوم واحداً، ليس في الحقيقة كذلك. لا بل داخل كلّ بلد غربيّ نجد حزباً يساريّاً، أو اشتراكيّاً ديمقراطيّاً، وحزباً يمينيّاً ومحافظاً أو مسيحيّاً ديمقراطيّاً، كما نجد أحزاباً وقوى متطرّفة على هامشي الطرفين. والشيء ذاته ينطبق على الإعلام والنقابات وطرق التعليم وسوى ذلك من مستويات الوجود الاجتماعيّ. وما اختيارنا افتتاحيّتي جريدتين تنتميان إلى البلد نفسه، والجهة الإيديولوجيّة نفسها، صدرتا في اليوم نفسه وعلّقتا على الحدث نفسه، إلاّ لتكثيف هذه الفكرة التي تقول إنّ الثقافة الغربيّة ثقافة انشقاق وتباين وليست ثقافة وحدة و"أخوّة". لكنْ إذا كنّا نسلّم بأنّ البلدان الغربيّة حقّقت نجاحات أبعد بكثير من نجاحات بلداننا في السياسة والاقتصاد والمعرفة والعلوم، وكلّ شأن آخر، بات علينا أن نسائل أنفسنا: كيف يتقدّم من يؤكّد على الاختلاف والتمايز فيما يتأخّر من يؤكّد على الوحدة والأخوة؟ وهذا سؤال يسوقنا إلى ملاحظة أبعد، مفادها أنّ من يقول إنّ الغرب واحد هو نفسه من يقول إنّنا نحن واحد، وهذا خطأ في الحالين. لا بل إنّه هو الخطأ إيّاه، أكان في وصف الذات أم في وصف الغرب، لأنّه يقوم على النظر إلى العالم كهويّات واحدة متجانسة لا انقسام في داخلها. فإذا ظهر الانقسام، رددناه فوراً إمّا إلى مؤامرة وإمّا إلى لعبة تمويهيّة أو ما سوى ذلك ممّا لا يستحقّ التوقّف عنده. وأخطر ممّا عداه أنّ هذه العقليّة عقليّة حرب متواصلة لأنّ الأطراف حين تكون هكذا، واحدة وكليّة التجانس، فإن أفقها الوحيد هو الصدام المفتوح في ما بينها. وغنيّ عن القول إنّ هذه النظرة الخرافيّة إلى العالم تجد مصدرها البعيد في الوعي القَبليّ والعشائريّ حيث تسود "ثقافة" الدم والتلاحم الدمويّ ممّا يعبّر عنه كمٌّ لا حصر له من الأمثال (على غرار: أنا وأخي على ابن عمّي وأنا وابن عمّي على الغريب...). وقد توقّف عديد الباحثين السياسيّين والاجتماعيّين عند عمليّة "تحديث" الوعي القَبليّ الذي مارسته الأفكار والنُظم التوتاليتاريّة في القرن العشرين. وما لاشكّ فيه أنّ النازيّة الألمانيّة كانت أبعد مَن ذهب في الاتّجاه هذا من خلال اختراعها الهويّات الميثولوجيّة الفاضلة والمتفوّقة، الآريّة والتيوتونيّة، ووضعها في مقابل هويّات ميثولوجيّة أخرى يُفترض أنّها منحطّة، كالسلافيّة واليهوديّة والسوداء. وليس بلا دلالة أنّ أصحاب هذا الوعي كان الدمار الذاتيّ لهم بالمرصاد، فسقطت التوتاليتاريّة النازيّة- الفاشيّة بنتيجة الحرب العالميّة الثانية، لتسقط من بعدها التوتاليتاريّة الشيوعيّة مع نهايات الحرب الباردة. أمّا الذين يقولون بتعدّد النظر واختلاف الأفكار والمصالح فهم الذين استمرّوا واستمرّت نماذجهم على قيد الحياة.