شكلت الحركة الإنسية إحدى أبرز مظاهر النهضة ثم الحداثة في أوروبا. فقد جاء الفكر الإنسي كرد فعل ضد التصورات السائدة كما حددتها الكنيسة. كان على الإنسيين أن يغيروا مفاهيم كثيرة، مثل فكرة الشقاء والخطيئة، وإشاعة مفاهيم جديدة كالسمو والكمال والتفاؤل، وكان عليهم تغيير النظرة إلى العالم وتوسيع مصادر الإلهام ونقد التقاليد والمؤسسات. وتجلى ذلك في مجالات فنية وأدبية. فالحرية والسعادة والجمال واحترام الذات هي القيم الكبرى للأخلاق الفردية. جاءت نظرية كوبرنيك حول الكون كضربة موجعة للكنيسة القائلة بمركزية الأرض، وكان لابد للإنسان الأوروبي أن يطرح سؤالا جوهريا: هل تملك الكنيسة الحقيقة؟ وإذا كانت لا تملكها فمن يملكها إذن؟ وكان الجواب: لا أحد يملكها، العقل والعلم وحدهما قادران على اكتشافها. هكذا بدأ الوعي الأوروبي يتشكل تدريجيا خلال القرنين 15 و16 معتمدا على العقل والعلم، وبدأت أسس البحث العلمي تتضح. ومع القرنين 17 و18 بدأت مرحلة جديدة كانت امتدادا للفكر الإنسي، لكنها متميزة عنه، ألا وهي فكر الأنوار. وإذا كان الفكر الإنسي انطلق من إيطاليا وغلب عليه الطابع العلمي والفني، فإن فكر الأنوار انبثق من فرنسا وإنجلترا وطُبع بطابع فلسفي. لقد حاول فلاسفة الأنوار التجرد من كل الخلفيات ووضع المجتمع بأكمله موضع نقد ودراسة، رغم ارتباطهم بطبقات اجتماعية مختلفة. حاولوا إعادة النظر في المفاهيم الرائجة، كالسعادة والفضيلة والحرية والشعب... ورغم الانتقادات التي يمكن توجيهها لمواقفهم السياسية فإن فكرهم، وكما عبر عن ذلك "إيمانويل كانط"، مثل خروجاً للإنسان من حالة القصور العقلي متمثلة في العجز عن توظيف عقله دون توجيه من الآخر، إلى امتلاك شجاعة استعمال العقل. لقد اعتبر الإنسيون والمتنورون سلسلة متواصلة من البحث عن أساليب تحرير الإنسان من القيود التي تعيق استعمال ملكاته وقدراته العقلية وتقديس العلم باعتباره الأداة القادرة على اكتشاف قوانين الطبيعة. وهكذا كان القرن 19 حقلا لتطبيق المفاهيم الجديدة والتي أصبحت أكثر رسوخا، كما كان القرن 20 استمراراً لتجذر الحداثة والدفاع عنها والإيمان بأهمية الإنسان وحرية توظيف قدراته العقلية دون قيود. والسؤال المطروح: أين نحن في عالمنا العربي من هذه التحولات؟ لماذا لم نستطع خلق حداثة عربية والعمل على ترسيخها؟ إذا كان القرن 15 قد شكل بداية دخول أوروبا عصر الحداثة، فإنه في العالم العربي كان بداية للتراجع وسيادة التقليد. وحتى التطور الذي عرفه العثمانيون والسعديون في بلاد المغرب كان يطغى عليه الطابع العسكري التوسعي، وبالتالي ما لبثت هذه الدول أن تراجعت بسرعة أمام تطور أوروبا الجارف. لقد ساد الجمود الفكري ولم يستطع عقل الإنسان العربي الرازح تحت وطأة الاقطاع والاستبداد أن يحقق ثورة فكرية شبيهة بحركة الإنسيين. أحمد أبو وصال كاتب من المغرب ينشر بترتيب خاص مع مشروع "منبر الحرية"