ليس هناك من شك في أنه يمكن تلخيص الثورة السياسية التي تجتاح العالم في مجال النظم السياسية في عبارة واحدة مبناها أنها انتقال حاسم من الشمولية والسلطوية إلى الديمقراطية. والديمقراطية الحديثة التي تبلورت في القرن الثامن عشر، وطبقت جزئياً، وفي عدد صغير من الأقطار، ظهر وكأنه قد تم اغتيالها في القرن العشرين. فقد ظهرت النازية والفاشية، وهي مذهب سياسي وممارسة في الوقت نفسه، قضت على القيم والممارسات الديمقراطية، كما أن الشيوعية التي قامت على أسسها نظم شمولية أدت هي أيضاً إلى الإضعاف الشديد للتيار الديمقراطي في العالم. ولكن، فجأة، حوالي منتصف الثمانينيات، حدث تحول ملحوظ لصالح الديمقراطية، في مجال الأفكار والوقائع على السواء، في سياق الحساسيات الشعبية، وكذلك في نظر المفكرين والقادة السياسيين. ومن هنا تثار تساؤلات متعددة: كيف ولماذا حدث التغير؟ وهل مقدر له الدوام، وهل سيتاح له أن يعمق تيار الديمقراطية في العالم؟ وهل يستند إلى مفاهيم واضحة، ستطبق بجدية ونزاهة، أم أن الديمقراطية ترتكز على أفكار غامضة، غير متماسكة وزائفة، ليس من شأنها أن تكون سوى خدعة جديدة توقع الإنسانية في حبائل عبودية من نوع جديد؟ إن هذه التساؤلات المتعددة يثيرها المفكرون الغربيون، وهم يرصدون اتساع نطاق الديمقراطية في العالم، ليس فقط في بلاد أوروبا الشرقية، التي كانت ترزح تحت وطأة النظم الشمولية، وقد تحررت منها تماماً، ولكن أيضاً في بلاد العالم الثالث، التي شرعت في الانتقال من السلطوية إلى الديمقراطية بخطوات متدرجة. ومن بين القضايا المهمة التي تثار في هذا الصدد: هل يمكن تصدير الديمقراطية؟ إن بعض الباحثين الغربيين المحافظين ممن ما زالوا يعتقدون - تحت تأثير أفكار المركزية الأوروبية- أن الديمقراطية الغربية نظرية متكاملة، ويمكن تصديرها إلى مختلف الشعوب، يقعون في خطأ جسيم. ذلك أنه ليست هناك نظرية وحيدة للديمقراطية تتسم بالتناسق الداخلي، ويمكن بالتالي نقلها وتطبيقها كما هي في أي سياق اجتماعي وفي أي مرحلة تاريخية. فالديمقراطية -كما نشأت تاريخياً في المجتمعات الغربية- تأثرت في نشأتها وممارستها تأثراً شديداً بالتاريخ الاجتماعي الفريد لكل قطر ظهرت فيه. فالديمقراطية الإنجليزية -على سبيل المثال- تختلف اختلافات جوهرية عن الديمقراطية الفرنسية، وهذه تختلف اختلافات جسيمة عن الديمقراطية الأميركية. ولذلك إذا اتفقنا على أن هناك مثالاً ديمقراطياً ينهض على مجموعة من القيم، أهمها سيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، وحرية الفكر وحرية التعبير وحرية التفكير، وحرية تكوين الأحزاب السياسية في إطار التعددية، والانتخابات الدورية كأساس للمشاركة الجماهيرية في اختيار ممثلي الشعب، وتداول السلطة، فإن هذا المثال بما يتضمنه من قيم، سيختلف تطبيقه من قطر إلى آخر، وضعاً في الاعتبار التاريخ الاجتماعي، والثقافة السياسية، ونوعية الطبقات الاجتماعية، واتجاهات النخبة السياسية. ومن ثم نحتاج -في العالم الثالث بشكل عام، وفي الوطن العربي بوجه خاص- ونحن ما زلنا نمر الآن في مرحلة الانتقال من السلطوية إلى الليبرالية، إلى أن نفكر في النموذج الديمقراطي الذي علينا أن نتبناه، والذي يتفق مع الأوضاع الثقافية والاقتصادية والسياسية السائدة في الوطن العربي. وليس معنى ذلك الخضوع للواقع العربي بكل ما يتضمنه من تخلف، أو "الاستنامة" إلى حالة الركود السائدة، التي هي من خلق بعض النظم السطوية، التي جمدت المجتمع المدني العربي بمؤسساته المختلفة، ولكن ما نركز عليه هو ضرورة التفكير الإبداعي لصياغة نموذج ديمقراطي يستجيب إلى أقصى حد ممكن لمتطلبات المشاركة الجماهيرية الواسعة في اتخاذ القرار على كافة المستويات. ونجد في هذا الصدد اتجاهين رئيسيين: اتجاه الأنظمة السياسية العربية، واتجاه المثقفين العرب الممثلين للتيارات السياسية المختلفة. أما اتجاه الأنظمة العربية -على وجه الإجمال- فهو الانتقال من السلطوية إلى التعددية المقيدة، وبخطى وئيدة ومتدرجة. وتساق في هذا السياق حجج شتى، سواء ما تعلق منها بضرورة الحفاظ على الأمن القومي، كما تعرِّفه هذه الأنظمة، أو بأهمية الحفاظ على السلام الاجتماعي، والاستقرار السياسي. ومن ناحية أخرى فإن اتجاه المثقفين العرب -على وجه الإجمال أيضاً- يميل إلى توسيع الدائرة، والوصول إلى تعددية مطلقة لا تحدها أية حدود، حيث يباح إنشاء الأحزاب السياسية بلا قيود، وتمارس الصحافة حريتها بغير رقابة، وتنشأ مؤسسات المجتمع المدني بغير تعقيدات بيروقراطية. غير أن المشكلة الحقيقية لا تكمن في الوقت الراهن في الصراع بين الأنظمة السياسية وتيارات المعارضة، مع أهمية هذا الصراع، ولكنها تتمثل في الصراع العنيف داخل جنبات المجتمع المدني ذاته، بين رؤيتين متناقضتين: رؤية إسلامية احتجاجية متطرفة، تريد إلغاء الدولة العربية العلمانية، وتهدف إلى محو التشريعات الوضعية، وتسعى إلى إقامة دولة دينية لا تؤمن بالتعددية. أما الرؤية المضادة فهي الرؤية العلمانية بكل تفريعاتها، والتي تؤمن بفصل الدين عن الدولة، وتعتقد أن التشريعات الوضعية ينبغي أن تكون هي أساس البنيان الدستوري والقانوني، مع الحرص على ألا تتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، كل ذلك في إطار التعددية السياسية، التي ينبغي ألا تفرض عليها قيود. ويمكن القول إن موجة الديمقراطية التي تدفقت في مختلف بلاد العالم برغم التباين في طبيعة أنظمتها السياسية قد اتسع نطاقها، نظراً للآثار العميقة التي أحدثتها ثورة الاتصالات الكبرى، وفي قلبها شبكة الإنترنت. وقد أدت هذه التطورات الثورية إلى تأسيس فضاء إنساني جديد هو "الفضاء المعلوماتي" الذي شكل مجالاً عاماً Public Space يتبادل فيه الناس من مختلف البلاد، والذين ينتمون إلى عديد من الثقافات، الرسائل والمعلومات والأفكار من خلال وسائط شتى مستحدثة لم تكن متاحة للبشر من قبل. ويطلق بعض الباحثين على هذه الأنماط الجديدة من التفاعلات "إعلام العولمة" الذي يعني "التنظيم المذهل في قدرات وسائل الإعلام والمعلومات" كما تستخدم الإنترنت في عملية التصويت والانتخابات. وقد نشأت صورة خاصة من صور التعبير عن الذات هي ما يطلق عليه المدونات، لتسهم في تجاوز الحدود السياسية والثقافية بين المجتمعات بفضل ما تقدمه التكنولوجيا الحديثة والتكامل والاندماج بين هذه الوسائل لدعم وتوحيد ودمج أسواق العالم وتحقيق مكاسب لشركات الإعلام والاتصال والمعلومات العملاقة وهذا على حساب دور الدولة في المجالات المختلفة". (راجع في ذلك عادل عبدالصادق: الديمقراطية الرقمية، القاهرة: المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية، أكتوبر 2009). وقد برز مفهوم مستحدث هو الديمقراطية الرقمية وهو نمط جديد من أنماط الليبرالية نتيجة الدمج بين تكنولوجيا الاتصال والمعلومات في العمل السياسي كأدوات وطرق عمل جديدة في ممارسة الديمقراطية. وهكذا يمكن القول إنه مع اتساع دوائر الديمقراطية باعتبارها أحد شعارات العولمة الرئيسية فإن الثورة الاتصالية وعلى وجه الخصوص شبكة الإنترنت بوسائلها الإلكترونية المتعددة، أتاحت للديمقراطية أن تكون على رأس جدول أعمال التطور الحضاري الذي يشق طريقه في مختلف أنحاء العالم.