عندما دعا نائب رئيس الجمهورية العراقية طارق الهاشمي إلى "دولة المواطنة لا دولة المكونات"، أثار في النفوس بارقة الأمل ونخوة العمل من أجل بلاد المواطنة. لكنه أحبطها بتصريحه الأخير في أن تكون رئاسة البلاد حكراً للعرب، وهم السُنَّة لا غيرهم، إذا علمنا أن الانتخابات ستأتي برئيس وزراء شيعي، فيصعب الجمع بين الرئاستين. ومع الأمل في أن يُكسر هذا التقليد، فإذا أتت الانتخابات بحكومة كلها سُنَّية أو شيعية أو كُردية فلتكن، بشرط أن تمارس المواطنة لا الطائفية. هذا الرأي ليس من لُّدني بل أَسمعه آية الله السيد محسن الحكيم (ت 1970) لرئيس الوزراء محمد فاضل الجمالي (ت 1997): "إن الحكومة التي تتشكل من الشيعة من الشرطي حتى الملك، لكنها تميز بين النَّاس، على أساس الشيعية والسُنَّية فإنها حكومة طائفية، وإنني أرفضها. ولو أن الحكم كله سُنَّي، من الشرطي حتى الملك ولا يفرق بين النَّاس، فإنني أعتبره حكماً طبيعياً" (مهدي الحكيم، التحرك الإسلامي في العراق). ويُعد هذا الكلام بمثابة وصية ملزمة، لمَنْ يُعد نفسه من أتباع تلك المرجعية، ولا نعني الهاشمي بها، وعلى ما أظن أن تقليد الأموات جائز. وضعت دعوة الهاشمي في أحقية العرب برئاسة العراق، دون سواهم، درجات للمواطنة، فما شأن الكُرد وبقية الأقوام بعراق لم يتشفوا برئاسته! إنها عودة إلى تقليد الإمامة محصورة بقريش، وحصرها آخرون بالفاطميين، وضيقها آخرون في ولد الحسين بن علي (قتل 61 هـ) بأحاديث نبوية. وبغض النظر عن صحة تلك الأحاديث أو وضعها، إلا أن الدنيا قد تبدلت، و"لكل زمن ترتيبه". وما دام نائب الرئيس، وحزبه السابق، "الإخوان المسلمون"، قبلوا بالديمقراطية، ونزعوا إلى وحدة العراق، والمساواة بين طوائفه وأقوامه، فما معنى حجب الرئاسة عن الكُردي! لا يهمنا مَنْ يكون الرئيس، أجلال الطالباني أم سواه من كُرد العراق، بقدر ما يهمنا المبدأ في أن تُحتكر الرئاسة لقوم دون قوم. لا ندري إذا ما فكر نائب الرئيس بجعل هاجسه القومي مادة دستورية، وهي ضربة موجعة لوحدة العراق المترنحة في التشظي الطائفي، وما يكتنفه من مفاجآت، لوجود خلافات شديدة الوطأة بسبب الدفائن من الحزازات التي لعب في إحيائها الراغبون عن وحدة البلاد. وإذا كان الأمر يرجع إلى الدساتير العراقية، ففي أشد موجات التعصب القومي لم يجرأ سياسي على تكريس رئاسة البلاد لطائفة دون أخرى دستورياً. فالدستور الذي أيده مَنْ يستلهم طارق الهاشمي الوطنية منهم، وهما من أقربائه رؤساء الوزارات: طه ياسين الهاشمي، وهو دستور 1925، جاء في مادته السادسة: "لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون، وإن اختلفوا في القومية، والدين، واللغة". وما جاء في المادة (18): "العراقيون متساوون في التمتع بحقوقهم، وأداء واجباتهم، ويعهد إليهم وحدهم بوظائف الحكومة بدون تمييز، كل حسب اقتداره وأهليته، ولا يستخدم في وظائف الحكومة غير العراقيين إلا في الأحوال الاستثنائية التي تعين بقانون خاص". كذلك جرى التشريع في الدساتير المؤقتة اللاحقة على المنوال نفسه: (1958، 1968، 2005). وشذ عنها دستور (1964) المؤقت، في تحديد رئاسة الجمهورية في المادة (41): "أن يكون عراقياً مسلماً من أبوين عراقيين". ثم اُلغيت هذه المادة في دستور (1968)، ثم في المادة (65) من دستور 2005 الدائم: "يشترط في المرشح لرئاسة الجمهورية أن يكون أولاً عراقياً بالولادة ومن أبوين عراقيين". صحيح أنه لم يُلتزم بدساتير العراق حرفياً، حيث جرى التمييز الطائفي والقومي إبان العهد الملكي، لكن بحدود ليست فاضحة مثلما جرى مع الدساتير المؤقتة فيما بعد، لكن لا مناص من الالتزام في الدستور الأخير، الذي بصم الهاشمي عليه، ولم يعترض على هذا الأمر بل على أمور أُخر، فالكل مثلما نرى ونسمع يحتجون للدستور، ونائب الرئيس أحدهم. أما أن حجته، ومَنْ يدلو بدلوه من ذوي الميول القومية، أن يكون رئيس العراق عربياً من أجل الانفتاح والتفاهم مع المحيط العربي، فهذه ليست حجة، إذ لم يشكو ملوك ورؤساء العرب من لسان جلال الطالباني ولا من روحه، بل على العكس في مؤتمر قمة الرياض، ومؤتمرات وزراء الخارجية العرب كان الأقرب إلى روحية المحيط العربي الطالباني والزيباري. أقول: هل حفظ رؤساء العراق وكبار قادته من شعر الجواهري بقدر ما حفظه رئيسنا الحالي! ومات الشاعر وهو يضع على رأسه غطاءً مهدى منه، وللجواهري: «يا بن الشمال ولستُ مسعر فتنة.. أنا في وداعتي الحَمام وأنعم». وهل الخلافات بين الدول بسبب ألسنة الرؤساء! وإذا كان ذلك كذلك، فما هو سر الصحبة مع تركيا مثلاً! تسقط ذريعة اللغة واللكنة والروح القومية إذا علمنا أن الفقيه الشافعي الكردي عبدالله بن محمد البيتُوشي (نحو 1796) لُقب لضلاعته بالعربية بسيبويه الثاني، وهو صاحب كتاب «حديقة السرائر وشرحها» (الآلوسي، مختصر التحفة)، والمولود في قرية بيتُوش عند منحدر الزاب الأسفل من جهة العراق. وهو القائل: «إني أحن إلى العراق ولم أكن...». وما لا يُذكر في السير والأخبار، أن وزير الداخلية الكُردي سعيد قزاز (أُعدم 1959)، والذي لم يستعرب وكان شجاعاً في آخر لحظة من حياته بوجه جلاديه، أنه كان أحد صناع الهوية العراقية، مثلما أراد لها الملك فيصل الأول (ت 1933). كان قزاز يتقصد تعيين الكُردي في المناطق الجنوبية، والعربي في المناطق الشمالية، ووضع أمام عينيه معيار الهوية الوطنية التي مزقها، وهي داخل جغرافيا واحدة، الولاة والشيوخ والأغوات، فلا هم لأولئك سوى جباية المال. وإجمالاً لكُرد العراق دور مشهود في بناء الدولة، بأيدي الوزراء والإداريين، وقادة الجيش، ومن حقهم ألا يستثنى الكُردي من رئاستها. على نائب الرئيس أن يكون وفياً لدعوته إلى عراق المواطنة لا المكونات، ولا نرى الطالباني كان كُردياً في منصبه الرئاسي، بل على العكس امتصت رئاسته مخاوفَ تأصلت في الذاكرة الكُردية، من عدم الاطمئنان لتكرار هيمنة قومية بالنار والحديد، إذا استمر التفاضل بين العروق. للأسف بقدر ما كان الهاشمي، ولا أخفي تقديري الشخصي له، منفتحاً في دعوته إلى عراق المواطنة، كان صاداً عنها بدعوته لرئاسة العربي دون سواه.