مشكلة الحركات الإسلامية أنها غلّبت نظرية الحكم على نظرية العيش؛ قامت بزحزحة حاجات الشعوب اليومية لصالح حاجات الأيديولوجيا الحزبية الضيقة التي لا تنتهي إلا بالاستيلاء على الحكم. يريدون نفس سيناريوهات الذبح التي تحدث الآن بكل أسى في "الصومال" وآخرها أحداث "كيسمايو" في 21 الجاري. إنها حالات تعكس نظرية "عسكرة الإسلام". لكن نظرية "عيش الإسلام" هي التي غابت عن رموز تلك الحركات المسلحة بكافة انتماءاتها المذهبية والأيديولوجية. وفي مقال ممتع لـ:"سولين هونورين"، بعنوان: "مؤمنون لكن معتدلون"، قرأتُ عن مجتمع إندونيسيا المؤمن تفاصيل راقية، تعكس الإيمان الروحي الذي يحظى به أكبر مجتمع إسلامي في العالم وهو المجتمع الإندونيسي، وانتعاش الهوية الإسلامية ذات الصبغة الروحية الصوفية. ولا يزال التسامح الديني سائداً، في ذات المدرسة التي درس فيها أوباما -وهي مدرسة حكومية- يدرس فيها البوذي بجوار المسلم والمسيحي جنباً إلى جنب، هذا رغم التدين الواضح على البيت الإندونيسي، والمظهر الديني الجميل الذي يغلّف المجتمع الإندونيسي بكافة أطيافه وشرائحه. أعجبني من المقال نص جاء فيه: "الإندونيسيون استغرقوا قرونا لاعتماد مقاربة روحية وأحياناً صوفية للإسلام، امتزجت بالثقافة لدى استقلال إندونيسيا عام 1945 رفض الآباء المؤسسون خيار جعلها دولة إسلامية خاضعة لحكم القانون الديني واختاروا بدلا من ذلك مسارا أدى إلى تعزيز الوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية إلى جانب الالتزام بحرية المعتقد الديني". بمعنىً آخر استطاع الآباء الأوائل تنحية ما يخدش الوحدة الوطنية، حتى وإن كانت نظريات تمسّ الحكم السياسي الإسلامي. لم تكن نظرية الحكم لتطغى على نظرية العيش، وهذا ما أنقذ المجتمع الإندونيسي من غلواء التطرف الديني ورسّخ الوحدة الوطنية بديلاً عن الأيديولوجيا الإسلامية الصعبة؛ بل والصلبة. صحيح أن هناك فئات إندونيسية خرجت كجماعات مسلحة لكنها نسب ضئيلة إذا ما قارناها بعدد السكان. إن تلك القرون التي استغرقتْها إندونيسيا لتأسيس المقاربة الروحية، هي التجربة الروحية الاجتماعية التي تستحق الدراسة من قبل الحكومات الإسلامية لتتمثلها في ظلّ تمدد نظريات الحاكمية التي تغلّب مشروع نظرية الحكم على نظرية العيش. حينما رفض الآباء المؤسسون في إندونيسيا تأسيس البنية السياسية على أسس إسلامية حزبية ساهموا في تحرير الأرض من دنس الأيديولوجيا فنبتت الوحدة الوطنية زرعاً نضراً بهر كل الدارسين للإسلام في شرق آسيا. ورغم التوقعات التي ترجح عودة الأصولية للهيمنة على المجتمع الإندونيسي وهي نقطة ذكرت في مقال "سولين" وخاصةً في عام 1998 حينما ظهرت أفكار جديدة إلى الواجهة، وحينما بدأت التيارات الإسلامية تتنافس. ظنّ المتابعون أن الإسلام الأصولي يرسم خطاً فيروسياً لاحتلال الحكم وبنائه على أسس من الحزبية الإسلامية العسكرية، غير أن الروح المتصوفة التي تغلغلت في الإندونيسيين مكّنت الجسد الإندونيسي من ترسيخ "ممانعة" أصلية ضد الاختراق الأصولي، وتلك هي تجربة إندونيسيا الاجتماعية الروحية التي تحتاج إلى دراسات كبيرة تموّل من الحكومات لمعرفة مصائر المجتمعات الإسلامية التي تعود ركضاً إلى "هويات" متحوّلة لم تكن من الإسلام في شيء. آن الأوان أن نصدح بتجارب روحية تعزل الصلابة الحزبية وتهزم نزعات التشدد التي تختطف الإسلام، وتحبسه في مفاهيم ضيقة لا تتجاوز بضع مظاهر وسلوكيات، مع إهمال شديد لأولويات الرابطة الاجتماعية، والتجربة الروحية. نتمنى أن تقتدي الحكومات بالآباء الأوائل في إندونيسيا الذين رفضوا تحويلها إلى دولة إسلامية، لسبب بسيط واحد: أنهم أرادوا إندونيسيا لكل الإندونيسيين، لا لحزب أو مذهب أو تجمع أو فرقة. وهذا هو مكمن الجمال.