نمط التفكير لدى الفرد في أي مجتمع، يعكس التوجه الفكري لهذا المجتمع، فالفرد جزء لا يتجزأ من مجتمعه، وما يقوم به هذا الفرد من تصرفات، أو يتصف به من سلوك، يعكس البيئة التي نشأ فيها هذا الفرد، إن كانت متقدمة أو متخلفة حضارياً. ومن يمعن النظر في حجم الفتاوى، والفتاوى المضادة، يجد أن العقل العربي مازال منغلقاً، وغارقا في ذاكرته لماضٍ لم يحاول نسيانه، والاتيان بما يضيفه لهذا الماضي، ولا يستطيع تقبل التطوير الذي لم يستطع مجاراته، والاتساق معه فكرياً. تقوم الفتوى على اجتهاد يبذله شخص ما تجاه مسألة ما، لعدم وجود نص من القرآن أو الحديث يشرح كيفية التعامل معها؛ إذاً هذا الاجتهاد هو رأي لهذا الشخص في هذه المسألة، وليس بالضرورة أن يكون مصيباً، ويعامل هذا الرأي معاملة النص القرآني والعياذ بالله، وهذا ما يدعو لمحاولة فهم ما يدور في أدمغة الغالبية منا في التعامل مع هذه الآراء المختلفة والنابعة من عقول ربما لم تستوعب ما قرأته أو اطلعت عليه، وبالتالي لسنا مجبرين على اتباعها طالما هي عائدة لمدى قدرة هذا الشخص على الاستيعاب الذي يدعم الرأي الصائب!، والرأيين الشرعي والقانوني تبطل الأحكام الصادرة طالما هناك شك في حيثياتها. الشيخ الذي اعتاد مثل هذه الفتاوى، أصدر فتوى قبل عامين بحق كاتبين صحفيين، وهي مشابهة لفتواه الأخيرة في موضوع الاختلاط، وماذا يجب أن يعمل به تجاه من يجيزه؟!، ولكن من الثقات الذين يعرفونه جيداً وتحدثوا لي عنه قالوا إن من يجالسه لا يستطيع أن يخمن الخطوة المقبلة التي يخطوها، فربما وأنت جالس إلى جانبه تتحدث وجدته فجأة يطلب منك مغادرة المكان بمعنى"طردة" دون أن تجد تفسيراً لسبب ذلك التصرف منه. وآخر الفتاوى ما جاء به أحد أتباع التوجه المتطرف حين باغت العالم الإسلامي بمطالبته بهدم الحرم المكي، وإعادة بنائه بطريقة تضمن عدم الاختلاط بين الجنسين، متناسياً أن من يأتي إلى هذه الأرض المقدسة قد جاء بدافع روحاني يخلص فيه ويركز على العبادة فقط، وليس لأغراض دنيوية دفعت بهذه الفتاوى وما يرد في سياقاتها المتطرفة. الطيش الفكري أو "الشذوذ الفكري" الذي يتعرض له العالم في كافة اتجاهاته الفكرية أمر سلبي للغاية؛ إذ أن هناك توجهاً وتوجهاً مضاداً، وبناء هذه التوجهات الآتية من خلفية متطرفة تصطدم الأفكار ببعضها، وهنا يقع الإشكال، فلا هي الأفكار الدينية المتطرفة مجدية، ولا هي الأفكار المضادة لها مجدية إذا ما أتت من المنبع ذاته وهو التطرف. هناك أفكار تنتجها عقول رافضة لكل متغير، تعودت الإفراز في الأجواء الساكنة، وتتوقف عن العمل مع ديناميكية الحركة والصخب التي نعيشها في هذا الزمان، وتنمو المجتمعات بهذه الوتيرة المتسارعة، ونأتي في الجهة المقابلة، لنرى أن هناك عقولاً أخرى تنتج أفكاراً مضادة للجمود على الوتيرة الواحدة، لكن مشكلة الأخيرة أنها تسعى للتغيير الثقافي دون وعي ربما بأننا نحمل هوية لا تتناسب مع مسعاها، فالأفضل من وجهة نظري هو أخذ المفيد من كل شيء، مع الحفاظ على الهوية والمسلمات الثقافية. وبين قصة ظريفة حول مطالبات من جهة دينية بضرورة فصل القرود من الجنسين عن بعضهما في حدائق الحيوانات، إلى جهة أخرى ترفض التسليم بصدقية وصول الإنسان إلى سطح القمر، فهل هي الهرطقة التي قرأنا عنها في تاريخنا تعود عبر دوائر الزمن؟ مسألة الاجتهاد الفردي، تعكس ما يدور في مجتمع هذا الفرد من حراك، وعصف فكري، وهذا يقودنا إلى مسألة التقييم التي يخضع لها هذا الفرد، ومدى استعداده الفكري للتطوير الحضاري في كل شيء، فالعالم ينمو في كل جزء منه، ويجب علينا مجاراته في كل تفاصيله، لأننا لسنا في كوكب منعزل عنه، بل نحن معه على أرضه وتحت سمائه، ونستنشق الهواء نفسه. دائما ما نجد بيننا من يحاول تبرير سلوك فردٍ معين أنه لا يعدو كونه تصرفا فرديا، وهذا يجعل المهمة أصعب، لأن لهذا الفرد بيئة تربى فيها واكتسب تلك التصرفات سواء كانت خاطئة أو مصيبة في المحيط الذي عاش فيه لينقل عنه هذه التصرفات!. "العوام" في مجتمعاتنا العربية يريدون كل شيء جاهزاً، فلا يحاولون حتى مجرد محاولة تكلل مشقة التفكير في شيء، ومدى قربه أو بعده من الموضوعية والمنطق، وكأنهم يريدون استعادة مقولة "من تمنطق تزندق"، فهم ينظرون لهؤلاء الأشخاص من مصدري الفتاوى، وكأنهم معصومون من الخطأ ومن كل زلل، ولا يريدون التعود على ما أمرنا به رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم- حين جاءه الأعرابي يستفتيه، وأجاب الرسول على سؤال الأعرابي، وقال له"استفتِ نفسك، ولو أفتوك". والنفس هنا يقصد بها العقل، بمعنى أن العقل لم يخلق عبثاً، وإنما يبقى محتوى الجمجمة هو الدينامو المحرك للشخص، وليس العاطفة، وما تحتوي عليه من مشاعر، تحدد التوجه الفكري للفرد إما مع أو ضد، وهذه العاطفة هي التي قادت الكثير منا في سياقات ضدها، لكنها العاطفة تبقى دائماً هي الملغية للعقل مع بالغ الأسف.