في أول قرار رسمي يتخذه من المستشفى الألماني الذي خضع للعلاج فيه، أصدر الرئيس المصري مبارك، يوم الجمعة الماضي، قراراً جمهورياً بتعيين أستاذ العقيدة والفلسفة الدكتور أحمد الطيب شيخاً للأزهر، خلفاً للدكتور طنطاوي الذي توفي قبل بضعة أيام. ويعتبر الطيب أحد أكثر مشايخ الأزهر الحاليين انفتاحاً وإيماناً بالحاجة إلى تجديد الفكر الديني في الإسلام؛ وهو يتحدث اللغتين الفرنسية والإنجليزية، ويلبس "الزي المدني"، ويرأس طريقة صوفية، وينتمي إلى الهيئة القيادية في الحزب الحاكم، ويرأس لجنة حوار الأديان في الأزهر، وله فتاوى تُعد خروجاً على "جمود" التقليد الفقهي... لذلك يمثل تعيينه تمشياً مع الاتجاه الحالي للأزهر نحو تدعيم التسامح الديني وحوار الأديان والإسلام المعتدل. وحتى تاريخ تعيينه الجديد، كان الدكتور الطيب رئيساً لجامعة الأزهر، المنصب الذي شغله منذ 28 سبتمبر 2003، وكان قبله مفتياً للديار المصرية بداية من 10 مارس 2002. وها هو اليوم يتقلد مشيخة الأزهر، أعلى منصب في هذه المؤسسة الدينية التعليمية العريقة. ومنذ ثلاثة عقود بدأ الدكتور الطيب يتقلد عضوية كثير من الهيئات والمؤسسات؛ مثل المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ومجمع البحوث الإسلامية، والجمعية الفلسفية المصرية، ومجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وأكاديمية مؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي. كما كان مقرراً للجنة مراجعة وإعداد معايير التربية بوزارة التربية والتعليم، ورئيساً للجنة الدينية باتحاد الإذاعة والتلفزيون. وقد شارك في مؤتمرات كثيرة حول واقع الإسلام وحوار الأديان ووسطية الدين الإسلامي. وهو عضو المجلس الأعلى للطرق الصوفية بالتعيين، وشيخ الطريقة الأحمدية الخلوتية خلفاً لوالده مؤسسها بأسوان. وله ثمانية كتب في قضايا العقيدة والفلسفة وعلم الكلام، كما ترجم عدة كتب في الفلسفة الإسلامية من الفرنسية إلى العربية. وقد ولد أحمد محمد أحمد الطيب عام 1946 بقرية المراشدة في دشنا بمحافظة قنا في مصر، لأسرة متصوفة ينتهي نسبها إلى الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب. وتلقى تعليمه الأساسي والثانوي والجامعي بالأزهر، حيث نال شهادة الليسانس من شعبة العقيدة والفلسفة عام 1969، وعين معيداً في الجامعة الأزهرية فحصل منها على الماجستير عام 1971، ليتم ابتعاثه إلى فرنسا ويحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون عام 1977، ثم يعود ويتدرج في سلك التدريس الأزهري، إلى أن أصبح أستاذاً للعقيدة والفلسفة منذ عام 1988. وبداية من عام 1990 تم انتدابه لعمادة كليتي الأزهر في قنا وأسوان على التوالي، ثم عين عميداً لكلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية العالمية في باكستان عام 1999. وقد أثار القرار الجمهوري رقم 62 لعام 2010، بتعيين الدكتور أحمد الطيب شيخاً للأزهر، نقاشاً متجدداً حول دور الأزهر وفاعليته واستقلاله وآلية اختيار مشيخته! فالأزهر، الجامع والجامعة، يعد أكبر مؤسسة دينية علمية إسلامية في العالم، وثاني أقدم جامعة بعد القرويين. فقد أنشأه الفاطميون عام 361 للهجرة، وحوله صلاح الدين الأيوبي إلى جامعة سنية، ثم قام المماليك بتجديده وتوسيعه، ليصبح معهداً علمياً ذا سمعة عالية في مصر والعالم الإسلامي كله. وكان النظام المتبع فيه أن ينتخب كبار العلماء من بينهم ناظراً يشرف على شؤونه، إلى أن أنشأ العثمانيون، في القرن الحادي عشر الهجري، منصب "شيخ الأزهر" ليتولى رئاسة علمائه ويشرف على شؤونه الإدارية... لكن أيضاً من خلال آلية الاختيار والتوافق وليس التعيين. وظل الأزهر يتمتع باستقلالية مالية وإدارية وفكرية، إلى أن صادرت الدولة أوقافه عام 1953، ثم نزعت منه صلاحية الحكم في دعاوى الأحوال الشخصية والوقف والولاية وألحقتها بالقضاء العادي. وأتبعت ذلك بالقانون 103 لسنة 1961 الذي ألغى هيئة كبار العلماء، وأسند صلاحية تعيين شيخ الأزهر ووكيله ورئيس جامعته وعمداء كلياته، إلى رئيس الجمهورية. وحددت المادة الثانية من القانون ماهية الأزهر الجديد، قائلة إنه "يعيش بالإسلام في واقع المجتمع، وينفث روح الدين في شتى مجالات العمل في الدنيا". أما شيخ الأزهر فحددت المادة الرابعة أهم اختصاصاته: "شيخ الأزهر والإمام الأكبر وصاحب الرأي في كل ما يتصل بالشؤون الدينية والمشتغلين بالقرآن وعلوم الإسلام، وله الرياسة والتوجيه في كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية في الأزهر وهيئاته، ويرأس المجلس الأعلى للأزهر وهو برتبة رئيس الوزراء". وقد تعاقب على هذه "الرتبة" 48 عالماً، أولهم الشيخ محمد عبدالله الخرشي المتوفى عام 1690، وآخرهم شيخه الحالي الدكتور أحمد الطيب الذي قال، عقب تعيينه، إن الحفاظ على هوية الأزهر ورسالته العلمية والدعوية ومناصرته لقضايا المسلمين في العالم، هي أهم أولوياته خلال المرحلة المقبلة. وبحكم علمه وخبرته فإن "الإمام الأكبر" الجديد قد لا يحتاج وقتاً طويلاً للتعرف على مشكلات الأزهر، فخلال رئاسته للجامعة، عمل على تمتين العلاقة بين الأزهر وخريجيه، ووقع العديد من الاتفاقات للانفتاح على العالم الإسلامي، وأنشأ بعض الكليات والمعاهد فوق المتوسطة. ومن القضايا التي تعامل معها "أزمة ميليشيات جامعة الأزهر"، وموضوع النقاب الذي رأى أنه عادة وليس فريضة. أما خلال رئاسته دار الإفتاء، فأصدر فتاوى "مهمة"، وإن عارضها بعض الفقهاء، مثل تجويزه العمل في بيع الخمور بالنسبة للمسلم الذي يعيش في بلد غير إسلامي، وفتواه حول التصويت على التعديل الدستوري الأخير في مصر باعتباره "فرض عين"، وإجازته إمامة المرأة للرجال في الصلاة، وتجويزه تحنيط الموتى، وإباحته الرشوة في حال كانت ضرورية. وإن اعتبر البعض أنه من الأولى أن يكون شيخ الأزهر أستاذاً للفقه وليس للفلسفة، وأن يكون مستقلا عن الانتماءات السياسية الضيقة وليس منخرطاً في النشاط الحزبي... فقد ارتفعت أصوات آخرين أيضاً للمطالبة بالعودة إلى انتخاب شيخ الأزهر بدل تعيينه، لأن منصب الإمام الأكبر منصب ديني وليس سياسياً، ولأنه لا يمثل الحكومة المصرية بل يمثل المسلمين كافة. ووفقاً لهؤلاء فإن السياسة أساءت إلى الإمام الراحل وورطته في فتاوى متناقضة، وكانت السبب في الهجوم الذي تعرض له طوال 14 عاماً التي قضاها في منصبه، كما "كانت سبباً في تراجع دور الأزهر" نفسه. ومهما يكن فإن الدكتور أحمد الطيب، والذي يكن الاحترام لسلفه ويقره على كثير من مواقفه، ربما يعد أول أزهري يخلع العمامة ثم يتولى منصب الإمام الأكبر، علاوة على انتمائه الصوفي، وتوجهاته الحداثية، وكونه خريج السوربون، وحليق الذقن... مما يبدو متسقاً مع منهج الأزهر الجديد في الانفتاح والحوار والتعايش والاعتراف بالآخر! محمد ولد المنى