منذ أيام قليلة رحل عن عالمنا الفيلسوف الدكتور فؤاد زكريا بعد حياة حافلة بالعطاء العلمي في قسم الفلسفة بجامعة عين شمس (حيث تزاملنا في كلية الآداب) وفي جامعة الكويت اعتباراً من منتصف السبعينيات. لاشك أن دوره في سلسلة "عالم المعرفة"، معلوم للكافة باختيار أمهات الكتب الحديثة للترجمة إلى العربية، وبنشر مؤلفات عربية متميزة في كافة فروع المعرفة الإنسانية. لن تجد بين أساتذة الفلسفة خلافاً حول القيمة العلمية لمؤلفات فؤاد زكريا حيث يجمعون على أهمية قيامه بترجمة كتاب جمهورية أفلاطون المصحوبة بدراسة عنه، وكذلك يتفقون على أهمية دراساته عن الفلاسفة المحدثين، خاصة دراسته عن "سبنوزا" و"نيتشه" كما يشيرون إلى أن دراسته عن ديكارت قد أسقطت التصور الذي شاع عنه كفيلسوف مثالي، فقد أثبت في كتابه المعنون "شجرة المعرفة" أنه كان فيلسوفاً مادياً، وهو تفسير جديد في عالم الفلسفة. ومن المؤلفات المبكرة للرجل كتاب "الإنسان والحضارة" الذي صدر عام 1957. ولفت الأنظار إليه فتولى رئاسة تحرير مجلة "الفكر المعاصر"، التي قدمت لفلاسفة ومفكري العالم الغربي الرأسمالي في الستينيات نافدة حقيقية على العالم، حيث كانت معظم المصادر والمجلات تحاصرنا بفلسفة واحدة، هي الفلسفة الماركسية ومشتقاتها من الفلسفات الاشتراكية. كان ذلك بالطبع بسبب الخيار السياسي لنظام الحكم في مصر آنذاك. ومع ذلك فإن مجلة "الفكر المعاصر" كانت هي الأخرى من اصدارات الدولة ربما من باب التوازن الفكري. إذن لا جدل حول فؤاد زكريا كأستاذ للفلسفة انتج مجموعة كبيرة من الدراسات والترجمات الفلسفية مثل "العقل والثورة" لـ"هربرت ماركيوز" وحكمة الغرب لـ"برتراند راسل"، و"الفلسفة الإنجليزية في مائة عام" تأليف "رودلف متسن". لكن المجال المثير للجدل في إنتاج فؤاد زكريا يتصل بموضوعين الأول موقفه من "اليسار" والديكتاتورية، والثاني موقفه من الدعوة إلى العلمانية. في الموضوع الأول، اشتبك فؤاد زكريا مع التيارين "اليساري" و"الناصري" في مصر عندما كتب دراسة نقدية للتجربة الناصرية وعلاقة "اليساريين" بها. وفي الموضوع الثاني، أطلق شعاراً في أحد مقالاته مناقضاً لشعار الإسلاميين "الإسلام هو الحل" حيث دعا إلى ضرورة المنهج العلماني. عندما هاجمه الإسلاميون واتهموه بالعداء للدين أكد أن رؤيته تقوم على أن الإسلام لا يتعارض مع العلمانية، وأنه من الممكن أن يتعايشا جنباً إلى جنب، فالإسلام دين العقل والمنهج العقلاني وهو لب العلمانية. اشتبك في مناظرة شهيرة مع فضيلة الشيخ محمد الغزالي، مما أدى إلى تصاعد الهجوم الإسلامي عليه. يقول الدكتور محمود رجب أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة عين شمس في شرح موقف الدكتور فؤاد زكريا "الحق أنه يدعو إلى علمانية متصالحة مع الإسلام، دون أن يستبعد أحدهما الآخر، وربما كان ذلك هو السبب وراء إعجابه الشديد بالزعيم مصطفى النحاس فقد كان علمانياً حقيقياً ومسلماً ورعاً في آن واحد"... هذا التفسير لم يطفئ جذوة الصدام بين زكريا والإسلاميين حتى الآن. في الجانب الشخصي جمعتني زمالة وصداقة بالراحل اتسمت باحترام كل منا للآخر مع الحفاظ على خلافاتنا الفكرية، أشهد لله أنني لم ألحظ أن هذا الفيلسوف قد أظهر يوماً غضباً من الخلاف الفكري معه، كما يفعل الكثيرون عندما يحولون خلاف الرأي إلى خصومه وعداء. د. إبراهيم البحراوي