مما لاشك فيه أن العولمة منذ بروزها باعتبارها الظاهرة التي تملأ الدنيا وتشغل الناس، تعد العامل الحاسم في عملية إعادة اختراع العالم. ولعل أبرز المشكلات السياسية التي أثارتها العولمة هي إعادة تعريف مفهوم سيادة الدول، بحكم أن منظمة التجارة العالمية التي هي نتاج معاهدة وقعت عليها عشرات الدول في نهاية مباحثات "الجات"، وضعت نصوصاً ملزمة لصناع القرار السياسيين في مختلف الدول بشأن حرية السوق الاقتصادي المطلقة، ومنع تدخل الدولة في الاقتصاد بشكل يخالف نصوص قانون المنظمة، وإلا تعرضت الدولة المخالفة لعقوبات قاسية. غير أنه بالإضافة إلى هذه المشكلات السياسية، هناك مشكلات اقتصادية، أهمها على الإطلاق إلزام الدول بفتح سوقها للتبادل الاقتصادي والتجاري بغير حدود ولا قيود. وذلك في ضوء التعريف الإجرائي الذي وضعناه للعولمة باعتبارها "سرعة تدفق السلع والخدمات ورؤوس الأموال والأفكار والبشر بين الدول بغير حدود ولا قيود". وإذا أضفنا إلى ذلك المشكلات الثقافية للعولمة، وأهمها على الإطلاق محاولة فرض ثقافة كونية على كل الشعوب والدول، مما قد يؤدي في بعض الأحيان إلى تصادم مع الخصوصية الثقافية لبعض الشعوب، أدركنا أننا أمام ظاهرة متعددة الجوانب ستكون لتفاعلاتها آثار عميقة في مجال رسم خريطة جديدة للعالم. وهكذا يمكن القول إن العولمة انطلقت من عقالها مثيرة كثيراً من العواصف والمشكلات التي تم حل بعضها جزئياً ولم تحل باقي المشكلات على رغم أهميتها القصوى. لأن الدول الكبرى المهيمنة على العولمة لا ترغب في مناقشتها، لأن المناقشة -لو تمت بشكل ديمقراطي تتوافر فيه الندية بالنسبة لكل طرف- قد تؤدي إلى حلول تهدد مصالحها. ومن بين أهم هذه المشكلات قضية الديمقراطية والعولمة. ونقصد على وجه التحديد أن العولمة الاقتصادية انطلقت كالفيضان العارم بغير ضوابط ديمقراطية، تجعل من حق الدول المختلفة الحوار والمناقشة قبل اتخاذ القرارات الاستراتيجية الكبرى. وقد أدى هذا الوضع إلى آثار بالغة الضرر بالنسبة لعديد من الدول، وخصوصاً الدول النامية العاجزة عن الصراع مع الدول المتقدمة في حلبة التنافس العالمي. وفي ضوء هذه الممارسة السلبية حاول أحد المفكرين الاقتصاديين يدعى "داني رودريك" وهو أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، أن يقترح حلولاً إيجابية لحل أزمة الديمقراطية والعولمة، وضمنها في ورقة دعته مؤسسة "فريدرش إيبرت" الألمانية إلى إعدادها، وعرضت آراءه على نخبة ممتازة من الخبراء الدوليين من مختلف بلاد العالم. وقد أثمرت تعليقاتهم على الورقة إضاءة حقيقية لمختلف أبعاد العلاقة المتشابكة بين الديمقراطية والعولمة. وقد أعطى "رودريك" ورقته عنواناً ذا دلالة هو: "أربعة مبادئ بسيطة للحكم الديمقراطي للعولمة". ويبدأ في صدر الورقة بالتمهيد لمبادئه الأربعة بالتركيز على أن المعضلة الأساسية للاقتصاد العالمي هي أن الأسواق تنزع بقوة لكي تصبح معولمة (تمتد على نطاق العالم)، في الوقت الذي نجد فيه أن المؤسسات القانونية والاجتماعية والسياسية يفترض أن تحكمها وتضبط إيقاعها مؤسسات وطنية. وهذا الوضع يؤدي إلى نتائج سلبية لكل من الاقتصاد والسياسة. فالتكامل الاقتصادي يظل بالضرورة غير مكتمل في ظل هذه الظروف، مما يؤدي إلى تحديد المكاسب التي يمكن أن ُتجنى من التجارة المفتوحة وسياسات الاستثمار. وبعبارة أخرى هناك تناقض بين عولمة الأسواق ومحلية المؤسسات التي تصدر القرارات. ومن ناحية أخرى فالانفتاح الاقتصادي يثير مشكلات العدالة والشرعية من جانب الجماعات التي تحس بأنها همشت في هذه العملية أو تم تجاهلها. ويقرر "رودريك" أن المناقشات الخاصة بإصلاح النظام العالمي للتجارة غالباً ما تغوص في مشكلات قانونية وفنية معقدة، في حين أننا نحتاج إلى صياغة مجموعة مترابطة من المبادئ البسيطة التي يمكن الحصول على إجماع حولها من ناحية، وتكون أداة عملية للإصلاح من ناحية أخرى. المبدأ الأول: الديمقراطية وليس الأسواق هي التي يمكن أن تقدم المبادئ التنظيمية لتوجيه السياسات العامة. السؤال الأساسي هنا: من الذي يحاسب الحكومات على سلوكها في مجال السياسات الاجتماعية والاقتصادية؟ هل الأسواق المالية؟ أم الناخبون وممثلوهم؟ لا شك في أن قلة من الناس هم الذين يمكن أن يختاروا الإجابة بنعم عن السؤال الأول. غير أن الواقع يشهد بأن الأسواق المالية تضغط حتى لا تكون سياساتها مجالاً للمناقشة الديمقراطية. والمؤسسات المالية الدولية تتحدث عن نظام السوق باعتباره المكون الأساسي لصنع السياسات، وذلك لحساب التدفقات والتحركات الحرة لرؤوس الأموال. وهذا المنظور من شأنه أن يقلل من أهمية وفوائد المناقشات الديمقراطية في ترشيد السياسات. إن الديمقراطية هي الضمان الفعال للحكم الصالح سواء في المجال الاقتصادي أو في المجال السياسي. ومما لا شك فيه أن الحريات المدنية والحرية السياسية وإجراءات المشاركة هي أفضل الطرق لضمان معايير سليمة للعمالة، وللاستدامة البيئية، وللاستقرار الاقتصادي. والأداء في النظم الديمقراطية في هذه المجالات أثبت أنه أفضل من الممارسات في النظم التي تقيد المشاركة السياسية، ومن ثم يمكن القول إن النظام الديمقراطي ينبغي أن يعلو على نظام السوق، وهذا المبدأ ينبغي الاعتراف والجهر به على أوسع نطاق. المبدأ الثاني: الحكم الديمقراطي والمجتمعات السياسية ينتظمان أساساً داخل إطار الدول القومية. وهذا الوضع من المحتمل أن يبقى كما هو في المستقبل القريب. إذا كان فرض النظام على السياسات المحلية والدولية يمكن أن يقدم الديمقراطية، فكيف يمكن للديمقراطية أن تكون عابرة للقوميات؟ ولكن إذا كانت المحاولات المتنوعة السابقة تدور في إطار مراجعة الديمقراطية نظرياً وتطبيقيا، إلا أنه في غمار العملية واسعة المدى لإعادة اختراع العالم ظهر "فضاء عام" جديد غير مسبوق في تاريخ الحضارة الإنسانية وهو شبكة الإنترنت. وهذه الشبكة تتدفق فيها كل لحظة بسرعة خاطفة ملايين المعلومات والأفكار التي تسبح في الفضاء المعلوماتي Cyber Space ويلتقطها أي متصفح للشبكة، أياً كانت جنسيته أو ثقافته أو لغته القومية وخصوصاً إذا ما كان يتقن الإنجليزية التي هي اللغة السائدة في الشبكة، وإن كانت قد ظهرت لغات أخرى بجانبها كالفرنسية واليابانية والعربية وإن بقدر محدود. ومعنى ذلك أن العالم أصبح متصلاً، مما أدى إلى الاشتباك والتفاعل الدائم بين الأفكار في كل المجالات السياسية والاقتصادية والفكرية والفنية والثقافية. وبرزت أشكال جديدة من التواصل الإنساني أبرزها على الإطلاق "المدونات" Blogs التي يدونها من يطلق عليهم المدونون. والمدونات أنواع مختلفة، فمنها المدونات الأدبية ومنها المدونات الفكرية والمدونات السياسية التي أسهمت في صنع صورة جديدة من صور الديمقراطية هي ديمقراطية "الفضاء المعلوماتي"!