شغلت المسألة القومية العربية موقعاً مهماً جداً في معظم المجتمعات العربية في مرحلة ما بعد الاستقلالات، التي حققتها بلدان عربية بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. لقد مثلت حالة مركبة تجلت فيها قضايا راهنة في حين، مثل الوحدة العربية والتضامن العربي والتقدم الاجتماعي ومقاومة المشاريع الاستعمارية ومواجهة مخاطر الصهيونية في فلسطين، ويلاحظ أن تلك القضايا الاستراتيجية لم يتحقق منها شيء في العمق، فظلت مهمات معلقة. ولم يقتصر الأمر على تلك القضايا، بل امتد إلى ما لم يُؤخذ بالاعتبار من قضايا أخرى، ظهر أن غيابها شكّل أسباباً خطيرة كمنتْ وراء ذلك الإخفاق، في مقدمة ذلك برزت قضايا الديمقراطية والمجتمع المدني والحرية، بحيث انحصر الخطاب القومي العربي شيئاً فشيئاً في صيغة الدعوة إلى "الانقلابية". واتضح مع الوقت أن هذه الأخيرة لم تكن، كما أفصحت عن نفسها، أكثر من دعوة تجييشية تحريضية وشعبوية لاستلام السلطة الحاكمة، ومن هنا، مُنحت قضية الجيش العسكري أهمية خاصة من قِبل الحركات والأحزاب القومية، على أساس أن هذا المذكور هو المطلوب منه أن يؤمّن عملية الانقضاض على السلطة، وتصفية "الخصوم"، سواء انتموا إلى الحقل القومي أو إلى غيره، وسُمّي هذا المذكور "الجيش العقائدي" نسبة إلى "عقيدة - إيديولوجيا" السلطة، التي يقف على رأسها "حزب عقائدي" يسعى إلى تعميم عقيدته في المجتمع حتى بطريقة العنف، وفي سياق ذلك، أُنتجت ألقاب للقادة كرّستهم زعماء أبديين فوق الأمة والشعب، فكان ذلك تأسيساً لإنهاء المجتمع السياسي. إذن، وضعنا يدنا على فئتين من القضايا والمهمات، التي لها علاقة بالمسألة القومية العربية، فئة اعتبرت حاسمة ضمن الحقل القومي، وأخرى أُقصيت من هذا الحقل، الأولى تمثلت بالشعارات الكبرى لتلك المسألة، من نمط الوحدة العربية، فكان الإخفاق فيها شاملاً، لكن الفئة الثانية (ومنها الديمقراطية) تبين أن تحقيقها شرط لتحقيق تلك الأولى: لقد تبين وظهر للعيان أن التعامل مع الفئتين لكي يكون ناجحاً، لا يمكن إلا أن يكون ضمن السياق التاريخي والآخر الاحتمالي، فوحدة عربية لا تتحقق - في عصرنا - خارج الديمقراطية والحرية، والتأسيس لمجتمع مدني، وكذلك بالدرجة الأولى التأسيس لمجتمع سياسي ينهض على مجموعة من الشروط، تأتي في مقدمتها مبادئ التداول السلمي للسلطة، وسيادة دولة القانون والتعددية في الأحزاب والآراء والإيديولوجيات. وفي هذا وذاك يبرز مبدأ المساءلة بالنسبة إلى الجميع، دون استثناء، مما يشترط وجود نظام قضائي حقيقي ملزم، وحيث كان هذا كله غائباً، كما حدث في مجتمع "الجمهورية العربية الموحدة" بين سوريا ومصر خلال عامي 1958 - 1961، كما أعلن الضابط السوري السابق عبدالكريم النحلاوي، في أحد البرامج الفضائية، فما الذي كان حاضراً في تلك الجمهورية التوحيدية، التي انتهت سريعاً؟ لقد كان حاضراً "دولة المباحث"، التي قال عبدالناصر بعد هزيمة 1967 "إنها انتهت، واستتباعاً: ما الموجود الآن؟