عرضنا في المقال السابق لعلاقة "الهجرة" مع مسألة الهوية في عالمنا المعاصر مستحضرين حالة الخليج العربي وحالة أوروبا الغربية بوصفهما الجهتين اللتين تشكل الهجرةُ فيهما اليوم، (هجرةُ اليد العاملة الأجنبية)، أحد العناصر الأساسية التي تتدخل، بهذه الدرجة أو تلك، في تشويش وعي السكان الأصليين بهويتهم الوطنية. وقد ركزنا في ذلك المقال على العوامل التاريخية التي جعلت هذه البلدان، في وقت من الأوقات، راغبة وطالبة لليد العاملة الأجنبية لحل مشاكلها الداخلية، وفي مقدمتها مشاكل البناء وإعادة البناء وتحقيق طموحاتها في التقدم والتنمية. وقد ختمنا بالقول إن ما فرضته الموجات السابقة من الهجرة كأمر واقع لم يعد وحده العنصر الذي يشوش اليوم وعي الناس في البلدان الأوروبية، كما في غيرها، بعلاقتهم بهويتهم، بل هناك عنصر آخر، "ذاتي" هذه المرة، هو ما عبرنا عنه في عنوان هذه المقالة بـ"شيخوخة السكان". غني عن البيان القول إن من السنن الواضحة البسيطة، التي تقوم عليها الحياة في المجال البشري، ما نسميه هنا بـ"الرعاية المتبادلة" بين الآباء والأبناء: يقوم الآباء بحاجات الأبناء حتى يكبروا ويصيروا رجالا، ليقوم الأبناء بعد ذلك بحاجات الآباء حين يشيخون، وإلى أن يفارقوا الحياة. كان هذا النوع من الرعاية المتبادلة يتم بشكل مباشر في المجتمعات القديمة -وما زال- وذلك في إطار الأسرة الواحدة المتماسكة ثلاثية الأجيال (أبناءً وآباء وأجداداً). أما في المجتمعات الحديثة فقد صارت هذه الرعاية المتبادلة تتم بواسطة الدولة، وذلك من خلال ما تفرضه من ضرائب على العاملين من الأجيال الصاعدة، وما تقوم به من خدمات اجتماعية لفائدة الصغار الذين لم يبلغوا بعد سن العمل، والكبار الذين دخلوا مرحلة التقاعد. ولتتحقق هذه الرعاية المتبادلة، سواء في شكلها العائلي المباشر أو بواسطة الدولة، يجب أن يكون هناك توازن سكاني معين: يكون فيه الأبناء أكثر عدداً من الآباء، والآباء أكثر عدداً من الأجداد وذلك على شكل هرم: قاعدته واسعة، ووسطه أقل اتساعاً من قاعدته، وقمته أقل اتساعاً من وسطه. وهذا النوع من التوازن الطبيعي قد أخذ يختل شيئاً فشيئاً في المجتمعات الحديثة منذ قيامها مع الثورة الصناعية في أوروبا إلى أن بات الهرم السكاني فيها اليوم أشبه بهرم مقلوب: قاعدة متقلصة وقمة عريضة. لقد أدى التقدم التكنولوجي وتطور الحضارة الرأسمالية الليبرالية (وبكلمة واحدة: الحداثة) إلى تفكك العائلة، إلى انتشار النزعة الفردية "الأنانية"... إلى تفضيل العلاقات الجنسية الحرة على العلاقات الزوجية، فتوقفت عملية "تجدد الحياة عبر الأجيال" عن أن تساير متطلبات التوازن الطبيعي في هرم السكان. إن شعوب أوروبا، بما فيها أوروبا الشرقية وروسيا، باتت تشيخ باطراد. إن الهرم السكاني فيها تضيق قاعدته باستمرار، الشيء الذي يعني تقلص حجم الشباب فيها. إن الأجيال الصاعدة، المنبثقة داخل إطار الهوية الوطنية، لم تعد تكفي وحدها لتلبية حاجات الأجيال السابقة لها، في مرحلة الشيخوخة، هذا فضلا عن حاجات البناء وإعادة البناء لمستقبل الوطن والإبقاء على الهوية الوطنية حية متجددة ذاتياً. والسؤال المطروح اليوم أمام قادة هذه الشعوب هو التالي: مِن أين، وكيف، الحصول على العدد المطلوب من "الأجيال الصاعدة" في مجتمعات تمارس باختيار وإصرار "العقم الذاتي"؟ ليس ثمة من حل لهذه المشكلة غير فتح باب الهجرة: الهجرة "الشرعية" التي تخضع لعملية الانتقاء: انتقاء الكفاءات من أبناء هويات وطنية أجنبية! ذلك هو الجواب الذي يتضمنه الشق الثاني من سؤال وزير الهجرة الفرنسية الذي طرحه (كما رأينا في مقال الأسبوع الماضي) على الشكل التالي: "ما هو نصيب الهجرة في الهوية الوطنية" (الفرنسية)؟ إن الجواب الذي يفرض نفسه هو أن نصيبها يتزايد حجمه مع مرور السنين. وبالتالي قد يأتي يوم لا يكون فيه معنى لكون الفرنسي فرنسياً، ولا الألماني ألمانياً، ولا الإنجليزي إنجليزياً إلا من خلال "هوية" (ورقة تعريف) تطبعها الازدواجية: الجنسية القانونية من جهة، ومن جهة ثانية الانتماء لبلد أجنبي على صعيد "الهوية الحضارية"، التي يُعدُّ "العرق" -وأحياناً الدين أيضاً- من مكوناتها الأساسية! هناك جواب آخر لنفس المشكلة، مشكلة "شيخوخة السكان" في علاقته بمسألة الهوية، يقدمه قادة بعض البلدان دون اللجوء إلى البحث عن الحل في "الهجرة". من هذه البلدان الصين وروسيا والهند علاوة على بعض الدول في القارة العجوز. ويتمثل هذا الحل في تجاوز بعض القيم التي بنت عليها بعض البلدان سياستها الاجتماعية، مثل تحريم تعدد الزوجات، وتحديد النسل... وكما هو معروف فقد فرضت الصين منذ السبعينيات من القرن الماضي تحديداً "حديدياً" للنسل تحت شعار "سياسة الطفل الواحد"، التي لا يسمح بموجبها إلا بولد واحد لكل زيجة، وذلك بهدف التخفيف من النمو المتزايد بالملايين لعدد سكانها. وقد دفعت هذه السياسة السكان إلى اللجوء إلى نوع من "وأد البنات". ذلك لأنه ما دام المسموح به هو طفل واحد فمن الطبيعي أن يفضل معظم الناس أن يكون هذا الطفل الوحيد ذكراً وليس أنثى. وقد كانت لهذه السياسة نتيجتان سلبيتان: أولاهما أن فرضَ "الطفل الواحد" أدى إلى تحول "الهيكل السكاني للصين إلى شكل هرم مقلوب، حيث يحتل قاعدة الهرم المُسنُّون، يليهم البالغون، ثم الأطفال، وذلك بنسبة 4، 2، 1. وغني عن البيان القول إن مثل هذا الهيكل السكاني الشائخ يخلق كثيراً من المشاكل الأسرية والتربوية. أما النتيجة السلبية الثانية فقد جاءت بسبب رد فعل السكان، وذلك بالاحتفاظ بالمواليد الذكور على حساب الإناث، الشيء الذي كان لابد أن يؤدي إلى تدني نسبة الخصوبة وخطر عدم تجدد الأجيال. وقد اضطرت الصين مؤخراً إلى تشجيع الاحتفاظ بالمولودة ، "الأنثى"، إلى جانب الذكر. أما روسيا فهي تشكو من خطرين على هويتها الوطنية: خطر الهجرة إليها من البلدان التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي، وخطر اختلال التوازن السكاني بارتفاع عدد الإناث بالنسبة لعدد الذكور، وقد ذكرت بعض التقارير أن "عدد النساء يزيد عن عدد الرجال بعشرة ملايين نسمة"، وذلك بسبب تدهور العلاقات الزوجية وسيادة العلاقات الحرة مما أدى إلى تزايد عدد "أطفال الشوارع". وقد دعا بعضهم إلى معالجة المشكل بفتح باب "تعدد الزوجات" وتشجيع الزواج من النساء ذوات الأطفال الذين يُجهل آباؤهم من جهة، وتقديم منح مالية للنساء اللائي يرفضن الإجهاض من جهة ثانية... وإذا نحن انتقلنا الآن إلى الأقطار العربية، جملة، فسنجد شعوبها تجتاز ظروفاً صعبة: تواجه تحديات تتهددها ليس فقط في هويتها كشعوب تتطلع إلى تحقيق نهضتها وتقدمها واستقرارها، بل تواجه تحديات وأخطاراً تهدد كثيراً منها في كيانها كوجود. ومن هنا هذا السؤال الذي يفرض نفسه على كل شعب أو طائفة، سؤال: مَن أنا؟ مَن نحن؟ وهذا السؤال المقضّ للمضاجع لا يتعلق بالحاضر فحسب، بل يتعلق أكثر بالماضي والمستقبل، كما سنبين في المقال القادم.