الدور السياسي لقطاع المال والأعمال ليس جديداً على مجال الشأن العام اللبناني. وفيما يخوض لبنان جدلا سياسياً منذ عدة أسابيع حول قانون الانتخابات، و"نظام الطائف"، والاستراتيجية الوطنية للدفاع، والموقف من قمة طرابلس المنتظرة... جدّ حدث استقطب اهتمام النخبة السياسية والإعلامية في بلاد الأرز؛ إذ كان يوم الجمعة الماضي موعد أغنى أثرياء العالم، رجل الأعمال المكسيكي كارلوس سليم، مع بلده الأصلي لبنان. وقد اكتسبت زيارته أهميتها ليس فقط من الاهتمام الفائق الذي لاقاه من جانب الرئاسات الثلاث في لبنان، وإنما أيضاً من كونها تزامنت مع تتويجه كأغنى شخص على وجه الأرض، وفقاً لمجلة "فوربس" في تصنيفها السنوي الذي نشرته الأربعاء الماضي. فبعد أن ظل بيل جيتس على رأس قائمة الأثرياء طوال عقد من الزمن، أزاحه كارلوس بثروة قدرها 53.5 مليار دولار، متجاوزاً إياه بنصف المليار. وقد استطاع قبل ذلك أن يزيح أميركياً آخر هو "ورين بافيت"، عملاق قطاع العقارات، من الموقع الثاني في قائمة مليارديرات العالم لعام 2009. وقد أصبح كارلوس سليم أغنى رجل في المكسيك منذ التسعينيات، وصاحبَ الاستثمارات الأكثر ضخامة وتوسعاً هناك، حتى بات يصعب على المرء أن يعيش في المكسيك دون المساهمة في تغذية ثروة كارلوس الذي يملك سلسلة واسعة من المتاجر والمحلات الكبيرة، وحوالي مئتي شركة في مجالات التأمين والاتصالات والفندقة والإسمنت والعقارات والطيران والنشر والإنشاءات والبترول، علاوة على عدد من كبريات البنوك والمصانع. وكارلوس ليس غريباً على عالم التجارة والأعمال، فهو من عائلة لبنانية مهاجرة امتهنت التجارة منذ وقت طويل. وكان والده جوليان سليم حداد، قد وصل رفقة والده وأخويه، إلى مرفأ "تنبيكو" المكسيكي عام 1902 قادماً من جبل لبنان، فعمل في قطاع التجارة وجمع ثروة صغيرة، لينتقل في عام 1911 إلى مكسيكو حيث أسس متجراً لبيع المواد المنزلية سماه "نجمة الشرق". وتزوج بابنة رجل أعمال آخر من أصل لبناني، هي ليندا حلو، أنجب منها ستة أبناء آخرهم كارلوس الذي ولد عام 1940، وأصبح اسمه حسب التقليد الإسباني الذي يحفظ اسم الوالدين "كارلوس سليم حلو". وتلقى كارلوس دروسه الأولى في عالم الأعمال في متجر والده، فتعلم قيمة المال وحكمة التصرف فيه، قبل أن يتخرج مهندساً في أواسط السبعينيات، حيث أسس شركة للبناء. وينقل عن أبيه الذي توفي عام 1952؛ أن جده كان يشتري أراضي وشققاً في مدينة مكسيكو في عز الثورة المكسيكية، خلال العقد الثاني من القرن العشرين، حيث كان يجيب محذريه من أبناء الجالية اللبنانية: "بالعكس، إنه أحسن ظرف، الأسعار منخفضة، والأراضي والشقق باقية في المكسيك، لن تغادرها". وهو درس استوعبه كارلوس إذ عرف كيف يستفيد إلى أقصى حد من الأزمة الاقتصادية التي ضربت المكسيك في الثمانينيات والتسعينيات. فانتهج استراتيجية تتمثل في اقتناص الشركات المتعثرة بأقل من قيمتها الحقيقية، ثم تحسين أوضاعها والنهوض بها لتوليد أموال جديدة لشراء شركات أخرى. فذلك ما فعله في عام 1981 مع شركة التبغ الحكومية "سيجاتام" التي استحوذ عليها مقابل 40 مليون دولار، ثم سرعان ما وصل حجم أعمالها 2.7 مليار دولار مكنته من شراء شركات للتأمين والبورصة. وفعله أيضاً مع شركة مخازن "سانبورن" المتخصصة ببيع السلع الرخيصة، وشركة إنتاج النحاس، والمصنع الأكبر لصناعة أحواض الحمامات والمرافق، وعشرات الشركات والمصانع الأخرى التي انتشلها من الإفلاس. وكان الانقلاب الأكبر أو الصفقة التي قذفت بكارلوس سليم نحو مصاف النخبة من أثرياء العالم، عندما قرر رئيس المكسيك "كارلوس ساليناس"، في عام 1990، خصخصة مئات الشركات الوطنية، ومنها أكبر شركة للاتصالات في البلاد (تلمكس)، حيث قاد كارلوس سليم اتحاداً يشمل "اس بي سي" الأميركية و"فرانس تليكوم" الفرنسية، واستطاع شراء "تلمكس" التي تسيطر حالياً على 92 في المئة من سوق خطوط الهواتف الأرضية في المكسيك، ويعمل بها 250 ألف موظف وعامل، وتمثل 40 في المئة من رأس مال بورصة مكسيكو. كما مثلت الديون المعلقة على بعض شركات الاتصالات الهاتفية بالمكسيك خلال التسعينيات، فرصة لكارلوس سليم كي يشتري أرصدتها بأسعار رخيصة. فبالإضافة إلى شركة "ام سي آي"، حصل على حصة كبيرة من أسهم "غلوبال كروسنغ" الأميركية بعد إفلاسها، كما اشترى شركة "امبراتيل" البرازيلية للاتصالات الهاتفية. ومنذ عدة أعوام بدأ كارلوس يتحرك بشكل متزايد خارج المكسيك بحثاً عن أسواق أوسع وأرباح أوفر. وفي عام 2003 اشترى أصول "أي تي آند تي" بعشرة مليارات دولار. كما اشترى حصة بقيمة 23 مليار دولار من "أميركا موبايل"، وهي أكبر مشغل للهاتف المحمول في أميركا اللاتينية. وإلى ذلك فإن مجموعة "كارلوس" المالية، والتي تمثل العمود الفقري لثروة كارلوس، تنشط أساساً في أميركا الشمالية وأوروبا. وقد جاء اسمها من الأحرف الأولى لاسمه واسم زوجته "سمية ضومط" التي اقترن بها عام 1967 وتوفيت بين يديه خلال رحلة طيران عام 1999، ولهما ستة أبناء، وضع ثلاثة منهم، ماركو وانطونيو وباتريسيو، على رأس إمبراطوريته، وهم يتولون إدارتها يومياً، بينما يُعنى هو باتخاذ القرارات الاستراتيجية. واستطاع كارلوس أن يضيف إلى ثروته في عام 2009 نحو 18.5 مليار دولار، بينما أضاف إليها في عامي 2007 و2008 نحو 12 و5 مليارات على التوالي. لكن الكثيرين يتهمونه بممارسة الاحتكار، وفي المكسيك يلقبونه "السيد المحتكر"، وكثيراً ما اعتبروه مجرد واجهة للرئيس الأسبق "ساليناس"، المتهم بعمليات فساد واسعة النطاق. ورغم تأثيره القوي على القرارات الحكومية والبرلمانية، فإن كارلوس ينفي أن يكون لديه مشروع سياسي خاص، أو توجه لأن يكون برلسكوني أو الحريري المكسيكي. محمد ولد المنى