كان مثيراً أن تضع مجلة "نيوزويك" على غلافها الأسبوع الماضي عنواناً يقول: "وأخيراً انتصرنا: نشوء عراق ديمقراطي"، وهذه دعوى كبيرة لا ينبغي لمطبوعة مثل نيوزويك أن تقع فيها، وإنْ كان كاتبو التقرير في الداخل قد تنصّلوا من هكذا عنوان، وكان تقريرهم أكثر تحفظاً في عباراته وتطلعاته، وأعجبني قولهم: "إن شيئاً يشبه الديمقراطية إلى حدٍ كبيرٍ بدأ بالظهور في العراق". نعم، ما يجري اليوم في العراق مختلف تماماً مقارنةً بما جرى في السابق وبخاصةٍ في انتخابات 2005، فالطائفية الطاغية حينذاك تضاءلت -وإن لم تختف- أمام طغيان السياسة، ولكنّ الأولوية بين المرشّحين أصبحت تراعي الجوانب السياسية والتنموية بشكل أكبر بكثيرٍ من الماضي، ما يدلّ على ارتفاع يثير الإعجاب في مدى تطوّر الوعي لدى الناخب العراقي، وتجاوز كثير من العراقيين للنوازع الطائفية والإثنية تجاه المصلحة العامة والشخصية، وهي نقطة كان يحسب الكثيرون أن العراق وشعبه لن يصل إليها بمثل هذه السرعة. ثمة جدل طبيعي يثور اليوم حول تزوير الانتخابات هنا وهناك، فالكلّ متشكك والكلّ متحفّز، وبغض النظر عن النتائج التي لم تعلن حتى كتابة هذه السطور، فإن "اختبار الديمقراطية الحقيقي لا يكمن في سلوك الفائزين بقدر ما يكمن في سلوك الخاسرين" كما هو التصريح العقلاني الجميل للسفير الأميركي في العراق كريستوفر هيل. ثمة مجموعة من العوامل ساعدت العراق والعراقيين في الاتجاه نحو مزيد من العقلانية مقارنةً بالسّابق، منها: عمق الإحساس بالمرارة من الجرائم الطائفية الدموية التي أثبتت فشلها في تخويف العراقيين، بل إنها زادت من تصميمهم على رفضها جملة وتفصيلا، ومنها: الترسّخ القديم لشعور العراقي بالولاء لوطنه بغض النظر عن طبيعة النظام الذي يحكمه، ومنها: انشغال بعض الأطراف الإقليمية بأزمتها الداخلية الضخمة عن إشعال الفتنة وبثّ التخريب في العراق، ومنها: الفيئة الجماعية لدى العراقيين للعقل والمصلحة ومللهم من الشعارات الطائفية والعصبية الجوفاء. نعم لم تزل الديمقراطية في العراق هشةً ولكنّها في نموٍّ وتصاعد، ويعلم الجميع أن العراق لم يزل مسرحاً للتأثيرات الدولية والإقليمية، ولكنّ وعي المواطن العراقي بقيمة صوته قد ارتفعت كثيراً عمّا سبق، وهنا تكمن قيمة الديمقراطية الحقيقية وهي إحساس الفرد بقيمته وقيمة تأثير صوته ورأيه على الوضع العام للبلاد، وعلى الحكومة والدولة، مع الأخذ بالاعتبار أن مثل هذه القيم لم تترسّخ بعد لدى مواطني المنطقة. ولئن كان مهماً تصاعد شعور المواطن العراقي بأهمية صوته في صناعة مستقبل وطنه، فإن الأهمّ هو أنّه قد بدأ يشعر أن سبيل الخلاص يكمن في صندوق الانتخاب لا صندوق الذخيرة، وفي أصوات الانتخابات لا أصوت البنادق، وفي عقلانية الديمقراطية لا صخب الطائفية والعرقية والإثنية. ولقد تعبت القوّات العراقية كثيراً في تأمين وصول المواطنين إلى نقاط الاقتراع ليعبروا عن رأيهم بسلامٍ وأمنٍ ونجحت كثيراً، وتعبها هذا يستحق الإشادة الصادقة. المفوضية العليا للانتخابات سعت جهدها لإثبات نزاهتها واستقلاليتها وجدارتها بإدارة انتخاباتٍ خطيرة كهذه الانتخابات، وتعمل لمستقبل مصداقيتها ومستقبل إدارتها، وتريد أن تكتب للتاريخ ما صنعته اليوم، وذلك لا يمنع وجود بعض الخروقات الانتخابية، فثمة أخبار متناقضة عن تصرفات بعض ممثلي المرشحين في بعض مراكز الاقتراع، ومحاولة ممثلي بعض الكتل للتأثير على الناخبين عبر خلق أجواء ترهيبية، لم تؤد لمقصدها نتيجة الإصرار الشعبي القويّ على المشاركة لدى أغلب التيارات العراقية. من الجميل في هذه الانتخابات كثافة الرقابة عليها محلياً وإقليمياً ودولياً. محلياً: كان هناك ممثلو التيارات وممثلو مؤسسات المجتمع المدني، وإقليمياً: كان هناك ممثلو الجامعة العربية وغيرها، ودولياً: كان هناك حضور للاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وغيرهما كثير. من الطبيعي أن تكثر الطعون والتشكيكات في نتائج الانتخابات، فالخاسرون سيشككون، والرابحون سيؤكدون على النزاهة، وكم كان مثيراً أن نقرأ تصريحاً لمسؤول ملف العراق في البرلمان الأوروبي "ستراون ستيفنسون"، يؤكد فيه أن تأخّر المفوضيّة عن إعلان النتائج الأولية يثير الشكوك حول مدى النزاهة حسب تصريحه للشرق الأوسط يوم الجمعة الماضي، وهو ما توالى على تأكيده كثير من المرشّحين والكتل الانتخابية العراقية، وسيكون على المفوضية أن ترد على مثل هذه التشكيكات المعتبرة. كان يهمني كمتابع أن أرصد تفاعل السلطة الرابعة مع حدثٍ بهذه الضخامة، فالحضور الإعلامي كان طاغياً ويشكّل رقابةً فوق الرقابة ما يدلّ على احتدام المنافسة من جهةٍ وأهمية الحدث من جهة أخرى، مع حرصٍ ملحوظٍ على الظهور بالمظهر المستقل والمهني حتى لدى القنوات العراقية ذات الولاءات المعروفة سلفاً، وهو تطوّر يستحق إمعان النظر. لقد غطّت الحدث عشرات الوسائل الإعلامية كالفضائيات والصحف والمواقع الإلكترونية وغيرها، ومن الطبيعي أن يكون ثمة تناقض بين هذه التغطيات يفرضه اختلاف الولاءات والأهداف لدى هذه الوسائل، ولقد تابعت العديد من القنوات العراقية والقنوات الإخبارية العامة، وكانت جميعها تؤكد على إصرار الناخب العراقي على المشاركة، كما كان هناك ما يشبه الإجماع بينها على عدم اكتراث الناخب بالتهديدات والعمليات الإرهابية التي حاولت تعطيل الانتخابات أو الشوشرة عليها، وكم كان مؤثراً ما نقلته بعض القنوات من مشاركة بعض كبار السنّ والمعاقين في هذا الاستحقاق الانتخابي الكبير. كنت حريصاً على المتابعة والمقارنة بين عددٍ من القنوات الإخبارية العراقية والعربية والعالمية الناطقة بالعربية، العراقية: مثل "العراقية" و"الشرقية" و"البغدادية" و"السومرية" و"الفيحاء" و"بلادي" و"الفرات" وغيرها، وقد بدا على أغلب هذه القنوات الانحياز لبعض الكتل التي تملكها أو هي قريبة من خطّها، لكنّ اللافت هو المحاولات الجادة للاقتراب من المهنية قدر الإمكان لدى أغلب هذه القنوات. أما القنوات الإخبارية العربية العامة: فقد لاحظت أنّ "الجزيرة" شبه غائبة وتسعى للتشكيك في العملية برمّتها، وربما كان هذا بسبب إقصائها عن المشهد العراقي، أمّا "العربية"، فأحسب كمشاهدٍ أنّها قد تميّزت في تغطيتها للحدث، فقد استطاعت الموازنة بين المتغيرات، فمن جهة كان تركيزها الأكبر على الخبر وذلك عبر توزيعها لشبكةٍ من المراسلين على مراكز الاقتراع وبخاصة تلك التي كان متوقعاً أن تكون محلّ نزاعٍ، ومن جهة أخرى فقد استخدمت تقنياتٍ متميّزةٍ لإيصال المعلومة للمشاهد، وسعت كذلك للتوازن في اختيار الضيوف والمحللين. أما القنوات العالمية الناطقة بالعربية: فأحسب أنّها لم تكن بمستوى الحدث لا من حيث تقديمها للخبر ولا من حيث اختيار المحلّلين والمعلقين عليه، فقد مالت إلى الضيوف الأجانب أكثر من العراقيين وهو ما قلّل من جاذبيتها للمشاهد. أخيراً فإنّ المؤكد هو أنّ تيّاراً واحداً لن يحكم العراق، وسيضطر الفائز لبناء تحالفاتٍ معقدةٍ وإرضاء أطرافٍ كثر وهو ما أحسب أنّه سيخدم العراق ومستقبله.