في عام 1953 أسفرت فطنة القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي "الناتو"، والرئيس الأميركي المنتخب للتو حينها، دوايت إيزنهاور، عن استغلال واشنطن والحلف معاً لكلية الحرب القومية -التي تحولت الآن إلى جامعة الأمن القومي- مقراً لما سمي وقتها بـ"مشروع سولاريوم" الذي استقطب عدداً من خبراء الأمن القومي والدفاع، بهدف تحفيز التنافس فيما بينهم في طرح الأفكار الجديدة ذات الصلة ببلورة استراتيجية الحرب الباردة. وقد شهدت واشنطن مؤخراً، عقد ندوة حول مستقبل "الناتو"، تكاد تكون في كثير من جوانبها نسخة حديثة من ذلك المشروع الدفاعي الذي أقامه إيزنهاور. وقد أدارت هذه الندوة وزيرة الخارجية السابقة، مادلين أولبرايت، وجمعت 12 خبيراً من مختلف دول حلف "الناتو"، وأنيطت بها مهمة ابتكار "مفهوم استراتيجي" جديد، من شأنه تحديد مستقبل الشراكة الأطلسية. ولا شك في أهمية هذه المبادرة، التي تناولت عدداً كبيراً من القضايا، بما في ذلك شؤون الطاقة والأمن الإلكتروني، والعلاقات مع روسيا، وغيرها من التحديات الأخرى. وقد أصاب روبرت جيتس في تحذيره من أنه ما لم تشرّع إصلاحات عاجلة لـ"الناتو"، فلن يساوي "المفهوم الاستراتيجي" الجديد، قيمة الورق الذي كتب عليه. وكان حديث جيتس الصريح في ذلك الملتقى، عن تدني مستوى الاستثمار الدفاعي الأوروبي، صدمة لبعض الدبلوماسيين الحاضرين. فمن بين مجموع الدول الأعضاء في حلف "الناتو" -28 دولة-لا تلتزم سوى 5 منها فحسب، بتخصيص نسبة 2 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي للشأن الدفاعي، وهي النسبة التي أوصى بها "الناتو" للإنفاق على الميزانيات الدفاعية. وفي المقابل، تنفق 24 دولة من الدول الأعضاء في الحلف نسبة أقل في ميزانياتها الدفاعية كما كانت في عام 2000 الذي يعد عاماً مسالماً نسبياً. كما يهدد توقيت إطلاق "المفهوم الاستراتيجي" الجديد هذا، بجعله فاقداً لقيمته وأهميته. ذلك أنه سيجيء متأخراً كثيراً جداً عن الإعلان عن التزام أوباما بزيادة عدد قواته في أفغانستان، والحاجة إلى تغيير مسار الحرب هناك خلال العام الجاري. وليس سقوط الحكومة الهولندية مؤخراً، نتيجة تنامي المعارضة السياسية لاستمرار المساهمة العسكرية الهولندية في تلك الحرب، سوى مثال عملي على ضرورة تسريع إصلاح "الناتو"، بشكل جذري. وقد دار في تلك الندوة كثير من النقاش لنص المادة الخامسة القائل: "إن أي هجوم عسكري على إحدى دول الناتو أو أكثر، سواء كان هذا الهجوم في أوروبا أو أميركا، يعتبر هجوماً على الحلف برمته". بيد أن أفضل وسيلة لتأكيد مصداقية هذه المادة هي ضمان تحقيق نتائج إيجابية للحرب التي يقودها الحلف الآن في أفغانستان. وفيما لو فشلنا في تحقيق هذا الهدف، فعندها سينظر الكثير من الأميركيين إلى الحلف باعتباره عديم الجدوى، وهو ما سيعصف بالعلاقات الأطلسية إلى غير رجعة. وفي الليلة السابقة للندوة، انتقدت هيلاري كلينتون حلف "الناتو" أيضاً، قائلة إن الميزانيات المدنية والدفاعية لا تزال معزولة عن أولويات الحلف، في حين تخصص موارد هزيلة جداً لبعض أولويات الحلف المهمة. واستطردت هيلاري في ذلك السياق عقب تصريحها المذكور، مؤكدة أن فن القيادة هو القدرة الفعلية على ممارستها، داعية في الوقت نفسه رؤساء الحكومات الأوروبية إلى رفع أصواتهم وتعبئة شعوبهم واستقطاب دعمهم لتعزيز الالتزام بالأمن الأوروبي- الأطلسي. وفي مقال رأي نشره مؤخراً "بادي آشداون" -وهو دبلوماسي بريطاني بارز، ومندوب سام سابق للبوسنة والهرسك-دعا القادة الأوروبيين إلى تذكير شعوبهم بأهمية الجهد العسكري في أفغانستان. وكذلك عزفت افتتاحية صحيفة "نيويورك تايمز" التي حملت عنوان "الهولنديون ينسحبون" على الوتر نفسه بقولها: "يحتاج القادة الأوروبيون إلى قول الحقيقة لناخبيهم: إن الحرب في أفغانستان ليست حرباً خاصة بأميركا وحدها. فهي حرب تستهدف منع تنظيم القاعدة من التمتع بملاذات آمنة في أفغانستان مجدداً. ولنتذكر أن تنظيم القاعدة شن هجمات دموية مروعة على بعض البلدان الأوروبية أيضاً". ولكن ما فات على حديث جيتس وكلينتون ومقال آشداون، وكذلك افتتاحية "نيويورك تايمز" المذكورة، هو أن القادة الأوروبيين لا تتوفر لهم الوسائل اللازمة التي تمكنهم من قيادة الرأي العام في بلادهم على هذا الطريق. والسبب الأساس في ذلك أن مهمة مكافحة الإرهاب كلها، تعامل في أوروبا على أنها مسألة تتعلق بتنفيذ القانون لا أكثر. ولذلك فهي لا تتجاوز حدود القضاء الوطني ووزارة الداخلية والشرطة في أي من الدول الأوروبية. والملاحظ هنا ضعف التنسيق بين هذه الوزارات والهيئات القضائية، على مستوى الاتحاد الأوروبي نفسه، مع عدم وجود أدنى صلة لها بحلف "الناتو". ويعني هذا حرمان القادة الأوروبيين من إدراك الصلة بين العمليات الجارية في أفغانستان، وبين أمن الدول والمدن الأوروبية. ولهذا السبب فإن معظم الأوروبيين لا يحسون بالتهديد الاستراتيجي الذي يمثله الإرهاب لبلدانهم، ولا علم لهم بالتهديد المباشر الذي يمثله تنظيم "القاعدة" بالنسبة لأوروبا ومصالحها. ومن جانبه لم يقم حلف "الناتو" بعملية تقييم شامل للاضطرابات الأمنية التي يسببها المتطرفون في باكستان والهند ومنطقة آسيا الوسطى، وكيف تؤثر تلك الاضطرابات على الأمن والمصالح الأوروبية بصفة خاصة. وقد حدث هذا التقصير من جانب الحلف، على رغم تمكن تنظيم "القاعدة" من استغلال شبكاته الواسعة المنتشرة في العديد من الدول الأوروبية، في شن هجمات في قلب كبريات المدن الأوروبية. ويضاف إلى ذلك أن منفذي هذه الهجمات سبق لهم أن تلقوا تدريباتهم في الملاذات الآمنة التي توفرت للتنظيم في أفغانستان. وعليه، فإن المطلوب هو أن يعكف القادة الأوروبيون على إعداد تقييم شامل للمخاطر الأمنية الحالية على أمن دول حلف الأطلسي، مع إطلاق حملة إعلامية واسعة هدفها تأكيد أهمية وضرورة الحرب الجارية الآن ضد التطرف والإرهاب في أفغانستان. ديفيد إم. أبشاير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سفير أميركي سابق لدى "الناتو" ورئيس معهد دراسات الرئاسة والكونجرس ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"