تقع مدينة پونا، التي تعتبر ثامن أكبر مدينة في الهند وثانية كبرى مدن ولاية "مهاراشترا"- من بعد "مومباي" (بومباي سابقا)- على ارتفاع 560 ميلًا فوق سطح البحر. وكانت المدينة، التي يعود تاريخ تأسيسها إلى عام 937 ميلادية، ذات يوم عاصمة لإمبراطورية "ماراتا". وفي عام 1817، الذي شهد هزيمة القوات الماراتية أمام القوات الإنجليزية، أُلحقت پونا بأراضي التاج البريطاني لتصبح مذاك، وحتى استقلال الهند عام 1947 ثكنة عسكرية لقوات المستعمر. وإذا كان الرعيل الأول في الخليج العربي عرف "حيدر آباد" كوجهة للاقتران بالسيدات الهنديات المسلمات، وعرف بومباي، كمدينة كوزموبولينية تخدم أغراض الترويح والتثقيف وتسويق اللؤلؤ وتوريد حاجات الخليجيين المتواضعة في حقبة ما قبلاكتشاف النفط، وعرف شقيقتها، ميراج أو(مرج بحسب نطقهم) كوجهة للاستشفاء بفضل مصحاتها ومستشفياتها العريقة - تحتضن اليوم كليتين من أفضل كليات الطب في الهند، وأكثر من 100 مستشفى وعيادة خاصة، واشتهرت بأنها أول مدينة في آسيا أجريت فيها عملية قلب مفتوح، وذلك في عام 1954، كما اشتهرت منذ القرن 19 بمستشفياتها التبشيرية التي وظفت خيرة الأطباء المتخصصين - فإن الآباء والأجداد، ومن ثم أبناؤهم وأحفادهم من الجيل الجديد في الخليج عرف پونا كوجهة للتحصيل العلمي بفروعه ومستوياته المختلفة. فالمدينة لئن ظلت منسية حتى أوائل الستينيات، فإن صيتها ذاع كثيراً فيما بعد بسبب ما راكمته من تسهيلات تربوية وتعليمية وتدريبية ممثلة في احتضانها لمئات المعاهد والجامعات ومراكز التدرب على التخصصات العلمية المطلوبة كتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتكنولوجيات وسائل المواصلات، وتكنولوجيات الترجمة وإجادة اللغات العالمية الحية. ليس هذا فحسب، وإنما اشتهرت أيضاً كمدينة توفر الترفيه البريء مثل الألعاب الرياضية المختلفة والبرامج المسرحية والموسيقية والأدبية وبأكلاف في متناول ذوي الدخول المتواضعة من أبناء العالم الثالث. وربما لهذا السبب، معطوفاً على سهولة الوصول إلى المدينة وتميزها بقدرتها على قبول الثقافات المختلفة في أجواء رائعة من التسامح، صارت الخيار الأول للكثير من الأسر متواضعة الدخل في الخليج والعالم العربي حين البحث عن وجهة لابنائهم من أجل التحصيل الجامعي، وذلك بدليل أن جامعات المدينة وكلياتها لئن ضمت البحريني والإماراتي والعُماني، فإنها ضمنت أيضا السوداني واليمني والصومالي والسوري والفلسطيني والإيراني (تقول الإحصائيات الرسمية أن نحو 500 ألف طالب يقطن پونا حالياً، من بينهم 18 ألفا من الطلاب الأجانب). ومناسبة هذا المقال المتأخر بعض الشيء هي تعرض هذه المدينة المسالمة النائمة بأمان فوق هضبة "ديكان" في الثالث عشر من فبراير المنصرم لهجوم إرهابي دموي، ونعني بذلك الاعتداء الذي استهدف مقهى "جيرمان بيكري" أو "المخبز الألماني"، الذي يتجمع فيه عادة الطلبة الأجانب الدارسون مع زملائهم الهنود للتسلية البريئة والترويح عن النفس. أما الذي ارتكب تلك الجريمة النكراء التي أودت بحياة 15 شخصاً برئياً، من ضمنهم شاب إيراني مسلم كان قد أتم للتو 6 أسابيع من برنامج مكثف للغة الإنجليزية، وجرحت 60 آخرين - كان من بينهم طلبة مسلمون من السودان واليمن والأردن فقدوا أطرافهم، وبالتالي صاروا من ذوي الإعاقة الدائمة، فهو نفسه الذي خطط ونفذ وأدار هجمات مومباي البربرية في عام 2008 ضد نزلاء فندق "تاج محل" الأثري، والتي أسفرت عن مقتل 166 شخصاً وجرح 600 آخرين، أي جماعة "عسكر طيبة"(تبنت جماعة إسلامية غير معروفة زعمت بأنها متفرعة عن عسكر طيبة مسؤولية الاعتداء في پونا). و"عسكر طيبة" لمن لا يعرفها جماعة متطرفة تتخذ من باكستان مقراً لها ومسرحاً لتدريب كوادرها وأرضاً للاختباء، وتدعي زوراً وبهتانا بأنها تعمل من أجل تحرير كشمير ونصرة شعبها المسلم، ولكأنما الهدف الأخير لا يتحقق إلا بإسالة دماء أكبر عدد من الأبرياء وترويع الآمنين وإرهاب تلامذة العلم وقتل طلبة من فقراء المسلمين ممن جاؤوا من ديارهم النائية بحثاً عن المستقبل الأفضل. ونقول إنهم تعمدوا قتل أكبر عدد من الأبرياء، بدليل توقيت عمليتهم الجبانة التي جاءت في مساء يوم السبت أي في إجازة نهاية الأسبوع، حينما تكتظ مقاهي پونا ومطاعمها بالطلبة. إن عملية پونا وهمجية منفذيها، ومن يقف وراءهم بالدعم والتمويل والحماية كشفت الوجه القبيح لبعض الجهات والأجهزة التي لا تريد أن ترى مناخاً من السلام يخيم على شبه القارة الهندية، وأفقا واعداً ينبثق من وراء ركام الآلام والأحزان والحروب المتكررة منذ رحيل المستعمر البريطاني، بدليل أنه كلما لاح الأمل بقرب حدوث انفراج بين الخصمين الكبيرين في جنوب آسيا، قامت تلك الجهات والأجهزة بعملية إجرامية تستهدف تخريب التقارب وإجهاض الآمال. فلقد حدث في عام 2004 تقارب رائع ما بين نيودلهي وإسلام آباد حير في حينه المراقبين وأدهشهم، خصوصاً وأنه توج بإطلاق محادثات سلام شاملة، وزيارات رسمية على أعلى المستويات، وتسيير القطارات وحافلات الركاب ما بين شطري كشمير. غير أن أعداء السلام والحياة كان لهم رأي آخر مناقض، فخططوا في عام 2001 لضرب" قدس أقداس" الهنود، وهو مبنى برلمانهم ورمز حريتهم وديمقراطيتهم، الأمر الذي أدى إلى تجميد العملية السلمية لبعض الوقت قبل أن يبعث فيها الروح مجدداً كنتيجة لضغوط واشنطن والقوى الدولية الكبرى الأخرى المعنية بإحلال السلام الدائم في شبه القارة الهندية. ومرة أخرى لم ترق الحالة للمتطرفين والإرهابيين من أشياع "القاعدة" و"طالبان" ومن في حكمهم، فجاء اعتداء "بومباي" الإرهابي الذي اضطرت معه حكومة رئيس الوزراء مانموهان سينج مدعومة بشركاء حزب "المؤتمر" الحاكم وكافة قوى المعارضة إلى الإعلان صراحة بأن نيودلهي، لن تواصل محادثات السلام مع إسلام آباد ما لم تضع الأخيرة حدا لأنشطة الجماعات الإرهابية الناشطة فوق التراب الباكستاني للإضرار بأمن وسلامة ومصالح الهند. وهكذا نجد أن توقيت عملية پونا كان مقصوداً، بمعنى أن الهدف منها كان إثارة نيودلهي وإيجاد مبرر لدفعها للانسحاب مما اتفق عليه مؤخراً وهو إحياء عملية السلام في شبه القارة الهندية عبر محادثات تبدأ أولا باجتماع يعقد ما بين أمين سر وزارة الخارجية الهندية "نيروباما راو" ونظيره الباكستاني "سلمان بشير".