عندما أحس سكان تشيلي بالهزات الارتدادية الأولى للزلزال الأخير الذي لا يقل في قوته عن زلزال هايتي المدمر، دب الخوف في نفوس أهالي مدينة "تالكا" التشيلية الذين لم يتعافوا من هول الصدمة بعد، لكن بالنسبة لعلماء الزلازل والمتخصصين في قياسها ودراسة تفاصيلها شكلت هذه الارتدادات فرصة ذهبية لدراسة الزلزال والخروج بخلاصات. ومن بين هؤلاء الذين قدموا إلى تشيلي جيف جينريتش من كاليفورنيا الذي بدا سعيداً بالفرصة التي وفرها زلزال تشيلي لاستكمال أبحاثه. فرغم مشاعر الخوف التي سيطرت على الأهالي والرعب الذي انتقل إلى المسؤولين من احتمال عودة الزلزال، ظل جينريتش محافظاً على هدوئه ورباطة جأشه وهو يقيس موجات الزلزال قائلاً: "لا أعتقد أن الأمر خطير إلى هذه الدرجة، بل إني أشعر بالمتعة لتوالي الارتدادات الأرضية"، ومع أن الصدمة كانت قاسية على السكان الذين ارتعبوا لزلزال يُعتبر كبيراً حسب المقاييس المعمول بها حيث وصلت درجته إلى 8.8 حسب ريختر وأوقع ما لا يقل عن 450 قتيلا، ناهيك عن تدمير البنية التحتية من جسور ومنازل، وهو أيضا الزلزال الأقوى في المنطقة، سارع العلماء من جميع التخصصات الجيولوجية والمرتبطة بدراسة الزلازل إلى تشيلي بحثاً عن إيجابات علمية لأسئلة مستعصية قد تساعدهم مستقبلاً في توقع حدوث الزلازل وتفادي تداعياتها الكارثية، وهو ما يعبر عنه "مايكل بيفيس"، الأستاذ بجامعة أوهايو الأميركية والدارس لجيولوجية تشيلي لأكثر من 17 عاماً "لإني مسرور لتواجدي في هذا المكان بعد فترة قصيرة على الزلزال". والحقيقة أن حجم الزلزال القوي وارتداداته الشديدة أيضا التي يمكن اعتبارها لوحدها زلازل مستقلة، يوفر للعلماء فرصة نادرة، ويوضح "بيفيس" الذي يعمل في العاصمة سناتياجو، ويشرف على تنظيم فرق العمل التي تأتي إلى تشيلي ويوفر لها الدعم اللازم، أن الهدف هو وضع مجسات دقيقة لجمع المعلومات عن الحركات الأرضية التي شهدتها المناطق التشيلية بعد الزلزال. ويقول بيفيس "إن الوقت مهم للغاية، فإذا لم يصل العلماء بعد الزلزال في الوقت المناسب وتأخروا لأكثر من أسبوعين، أو ثلاثة أسابيع فإنه عادة يتم فقدان المؤشرات التي تأتي من باطن الأرض والتحركات الجيولوجية المصاحبة للزلزال، لذا يشعر الجميع بالحاجة إلى الإسراع وعدم التأخر"، وهو ما يفسر قدوم العديد من العلماء في توقيت واحد، كي لا يفوتوا على أنفسهم فرصة الارتدادات التي تعقب الزلزال عادة وتوفر معلومات قيمة عن الظاهرة. وقد توزع العلماء على العديد من التخصصات المرتبطة من قريب أو بعيد بالأرض وتكويناتها الجيولوجية، لكن الزلزال أيضاً جذب مجموعة من المهندسين الذين سيعكفون على دراسة كيف استطاعت العديد من البنايات في تشيلي مقاومة الزلزال القوي والبقاء صامدة. وفي هذا الصدد، تقول "دانا كاكاميز"، مهندسة في الجيولوجيا الفزيائية بجامعة أوهايو الأميركية "إننا نسابق الوقت للوصول إلى تشيلي، وأعتقد أن جميع الفروع العلمية ستكون مطلوبة لتحليل المعلومات والخروج بدروس مفيدة". وتنبع أهمية زلزال تشيلي من الأثر الذي خلفه على كوكب الأرض حيث غيرت سرعة دوران الكوكب، وهو ما دفع العلماء في وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" إلى التصريح بأن اليوم أصبح أقصر بمليون في الثانية، كما أنه تسبب في موجات عاتية ضربت سواحل المحيط الهادي ودمرت العديد من القرى. وفي هذا السياق أيضاً يضيف "بين بروكس" أستاذ الجيولوجيا بجامعة هاواي، والذي يعمل إلى جانب فريق العلماء في تشيلي: إن الزلزال حرك القارة الأميركية، حيث تزحزحت بيونيس إيريس أربعة سنتيمترات نحو تشيلي، كما أن مدينة كونسيبسيو تحركت بثلاثة أمتار إلى الغرب، وواصل أن خمسين محطة ركبت في مناطق مختلفة لجمع المعلومات، وهي محطات تغطي مساحة تمتد على 2900 ميل، ويتوقع "بروكس" أن يقوم العلماء التشيليون بتركيب 25 مجسة أخرى ليمتد قياس الارتدادات إلى الغابات والوديان البعيدة قليلا عن مركز الزلزال. ومن بين العلماء الذين وصلوا في البداية إلى تشيلي، كان "جينريتش" مع مجموعة من المتخصصين من جامعة كاليفورنيا، فبعد ورود الأخبار عن الزلزال سافر على الفور إلى الأرجنتين بسبب إغلاق مطار سانتياجو بتشيلي ليدخل البلاد براً عبر جبال الأنديز، ومع أنه فقد أمتعته خلال السفر إلا أنه واصل مهمته دون تردد، ومباشرة بعد وصوله إلى التشيلي تسلق القمم العالية لجبال الأنديز ومعه مهندس مدني من جامعة التشيلي ومسؤول عسكري من المعهد الجغرافي التابع للجيش بحثاً عن دبوس صغير من المعدن كان الفنيون التشيليون قد وضعوه بين الصخور في العام 1992 لقياس التحركات الأرضية التي تسببها الزلازل، وما أن عثروا عليه حتى وضع مكانه جهاز لاقط للمواقع يتم تشغيله ببطارية تعمل بالطاقة الشمسية. والهدف هو قياس مدى تزحزح الأرض من مكانها بعد كل زلزال. ويأمل العلماء في أن تؤدي المعطيات التي يجمعونها من التشيلي إلى بلوغ مرحلة متقدمة من الدقة في قياس الزلازل وما ينتج عنها من تداعيات، والأمر يكتسي أهمية خاصة بالنسبة للتشيلي لأنها تقع في تقاطع الصفائح القارية لأميركا الشمالية وأميركيا الجنوبية وتتعرض على الدوام لهزات عنيفة توفر مادة خصبة للعلماء للدراسة والتحليل. ------- خوان فوريرو محلل سياسي ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"